صلاح نيازي قد يكون من المفيد، أن نضع أمام القارئ، الابيات المعنية أوّلاً حتى يسهل الرجوع إليها:1 ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلمِ أحلَّ سفك دمي في الاشهر الحُرُمِ2 رمى القضاءُ بعينيْ جؤذرٍ أسداً يا ساكنَ القاعِ أدركْ ساكنَ الأجَمِ
3 لمّا رنا حدثتني النفسُ قائلةً ياويح جنبك بالسهم المصيب رُمي 4 جحدتها وكتمتُ السهمَ في كبدي جرحُ الاحبة عندي غيرُ ذي ألم5 رُزِقتَ أسمح ما في الناس من خُلُقٍ إذا رُزِقت التماس العذر في الشيمِ6 يا لائمي في هواهُ والهوى قَدَرٌ لو شفّك الوجدُ لم تعذِل ولم تَلُمِ7 لقد انلتك أُذناً غير واعيةٍ وربَّ منتصتٍ والقلبُ في صممِ وهذا معجم سريع لمعاني بعض الكلمات الواردة فيه:ريم: الظبي الخالص البياضالقاع: أرض مستوية مطمئنة عما يحيط بها من الجبال والآكامالعلم: الجبل الطويلالبان: سبط القوام ليّن. ضرب من الشجر، واسم جبلجؤذر: ولد البقر الوحشيةرنا: أدام النظر في سكون طرفالجحود: الإنكار مع العلمقبل كلّ شئ، أهمّ ما يميّز الأبيات أعلاه هو كثرة المفاجآت. تفاجأ الشاعر أوّلاً ـ كما يبدو ـ برؤية ريم. تظهر هذه المفاجأة في ثلاث نواحٍ: 1- تنكيرالريم وكأن راويةالقصيدة لم يكنْ يتوقعها. راوية القصيدة فوجئ بما رأى. 2- ابتدأت القصيدة بالريم وكأن ظهورها قطع عليه سلسلة أفكاره. 3- وجود الريم بين البان: وهو الشجر السبط القوام وبين جبل العلم، أي بالكاد تُرى. بهذه الوسيلة بيّن الشاعر صغر حجم الظبية وبالتالي ضعفها. الريم هو الظبي الخالص البياض. هل لهذا اللون دلالة في القصيدة؟ وما دلالته؟ هل لأنه لون العفة أم البراءة أم النقاء والطُهر؟أكثر من ذلك اخبر الشاعر عن" ريم" بصيغة المفرد بدون رفاق. لماذا مفردة؟ هل جعلها الشاعر عرضة للخطر، وبهذه الوسيلة يستدرّ عطفنا عليها؟ أم لإثارة فضولنا؟ في الشطر الثاني " أحلَّ سفك دمي في الاشهر الحرم"، يكون اللون الاحمر مقابلاً للون الابيض.كان اللون الابيض جامداً، بينما اللون الاحمر مسفوكاً مراقاً وكأنه منحور. كلُّ ذلك جرى في الاشهر الحرم، اي من حيث لم يكن يتوقعه راوية القصيدة مطلقاً. بهذه الوسيلة يكون الشاعر قد أدخل عنصر المفاجأة مرّة ثانية عن طريق سفح الدم المحرّم.في البيت الثاني:رمى القضاء بعينيْ جؤذرٍ أسداً ياساكنَ القاع أدركْ ساكنَ الأجمِإذن ما حدثَ في " الاشهر الحرم" كان شيئاً خارقاً يصعب معه الالتزام بالأعراف فهو قضاء، لا رادّ له. أكثر من ذلك، لايقلُّ خرقاً لطبيعة الامور أن جؤذراً وهو ضعيف يتغلب على أسد وهو ما هو.حينما تكون المعادلة قد انقلبت على تلك الصورة، فان المنطق ينقلب هو الاخر، فيستغيث راوية القصيدة " بالمقتول للقاتل، لا منه".لنعدْ ثانية إلى " يا ساكن القاع ادركْ ساكنَ الاجم".المفروض أن ساكن القاع هو الهدف السهل بعكس ساكن الاجم اي الشجر الملتف، الذي يكون متخفياً إلى حدّ ما. بهذه الوسيلة، لا شكَّ قوّى الشاعر من لا منطقية الاشياء.يعود الشاعر في البيت الثالث إلى حاله هو:لمّا رنا حدثتني النفس قائلة ياويح جنبك بالسهم المصيب رُميبالبيتين الاولين، يكون راوية القصيدة قد سرد الحادثة. والآن إلى توقيتها بتعبير " لمّا رنا " ومعها أصبح راوية القصيدة شطرين منفصلين هما " حدثتني النفس " وكأنها تخاطب شخصاً آخر.رنا لغةً: إدامة النظر في سكون طرف. أي ما من حركة ولا بدَّ لكل سفح دم من حركة. هذه هي المفارقة أي كيف يحدث فعل من لا فعل؟.حين تقول النفس: " ياويح جنبك بالسهم المصيب رُمي" ندرك على الفور ان هذه الاصابة كانت من المفاجأة بحيث لم يشعر بها راوية القصيدة. ولزيادة غموض الرمي جعل الفعل رُمي فعلاً مبنياً للمجهول، وكأنما كان راوية القصيدة غافلاً كلّ الغفلة عمّا جرى إليه. كما ان صيغة رُمي ككمية موسيقية توحي بشئ ملموم صغير سريع.يقول الشاعر في البيت الرابع:جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألمِجحد راوية القصيدة نفسه التي كانت تحدثه، والجحود كما في اللغة " انكره مع علمه به". وفي التنزيل العزيز " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم "، واخفى السهم في كبده لأنه لا يؤلم.ينتقل راوية القصيدة في البيت السادس:رزقت أسمح ما في الناس من خلقٍ إذا رزقت التماس العذر في الشيمِإلى قارئه أو سامعه، وكأنه استنكر عليه إخفاء السهم وعدم الإتيان بأيِّ احتجاج فيأتي بالتماس العذر وكأنه سجية حميدة ترزق بها الطبيعة البشرية.ومن القارئ أو السامع العام، يخصص راوية القصيدة، اللائم بالذات وكأنه لم يقتنع:يالائمي في هواه والهوى قدر لو شفّك الوجدُ لم تعذلْ ولم تَلُمِليس لراوية القصيدة من حجة لاقناع ذلك اللائم سوى " ان الهوى قدر " ولايؤمن بذلك إلاّ مَن شفّه الوجد.يبدو ان اللائم الحّ في لومه، فلم يُصغِ إليه راوية القصيدة:لقد انلتك اذناً غير واعيةٍوربِّ منتصتٍ والقلب في صمممرَّة اخرى يصبح راوية القصيدة شطرين منفص
مقدمة نهج البردة لأحمد شوقي
نشر في: 16 سبتمبر, 2012: 06:48 م