علي حسينلو كُنّا شعباً جاداً، لو كان لدينا برلمان فعلي، لو كان لدينا رأي عام مؤثر وفاعل، لو كانت لدينا أحزاب حقيقية، لو كان هناك من يحاسب الفاسد وسارق المال العام والمرتشي، لو كان لدينا كل ما سبق أو بعض منه، ما وقعت مأساة شارع أبي نواس التي يسعى البعض من خلالها إلى طمس هوية هذا الشارع وإلغاء تاريخه، الجريمة التي لا تزال تمارس منذ أسبوعين،
كتب عنها بعض الزملاء والأصدقاء على صفحاتهم في الفيسبوك، لكن للأسف لم تتناولها أي وسيلة إعلامية باستثناء قناة الحرة، وكأن ما يحدث يجري في بلد آخر، ما حدث من تجاوزات على طرازية هذا الشارع العريق يصعب تصديقه، ويقدم الدليل على أنه لا أمل في أي إصلاح، طالما استمر صمت الناس، ونوم البرلمان. القصة لمن لم يتابعها لخصها لنا الصديق شلش العراقي، الذي كتب على مدونته هذه الصرخة "عرضت قناة الحرة ليلة أمس تقريرا عن مباشرة الحكومة بتحويل شارع أبي نؤاس إلى شارع عريض ومواقف سيارات، وحسب التقرير فقد تمت المباشرة باقتلاع بعض الأشجار المعمرة".في زمن النظام السابق تعرض أبو نواس وشارعه الأثير لهجوم بالغ الشدة وخصوصا خلال الحرب العراقية الإيرانية، حيث استنكر البعض في ذلك الوقت أن يسمى شارع في بغداد باسم شاعر مجوسي على حد قولهم، واذكر أن رأس النظام آنذاك طلب تشكيل لجنة لتغيير اسم الشارع كان احد أعضائها أستاذا وعميدا لكلية الآداب كتب حينها تقريرا حاول أن يثبت فيه بان شاعرنا كان كارها للعروبة، بل ذهب خير الله طلفاح في خطبة له بثها التلفزيون الرسمي، إلى إحراق كتب أبي نواس ومعه بعض الدخلاء على اللغة العربية وذهب به الشطط بعيدا حين طالب بمنع ديوان الشاعر الذي اتهمه طلفاح بتحريف معاني اللغة العربية، طبعا أطلق طلفاح دعوته هذه دون أن يقرأ بيتا لأبي نواس، لكن الهجمة الطلفاحية آنذاك كانت تأخذ في طريقها كل شيء. مثيرة للأسى السطور التي كتبها الصديق شلش العراقي عن شارع أبي نواس حين نقارنها بما كتبه الرحالة اللبناني أمين الريحاني، وهو يصف هذا الشارع في مطلع العقد الثالث من القرن الماضي، "انه لشبيه بشارع في مدينة أوروبية تعشق الحياة وتعكس الرغبة في التحرر من قيود الماضي"، ويذكر الريحاني في كتابه "قلب العراق" أن ليلة سمر جمعته في ذلك الشارع مع صديقة المقرب الشاعر الرصافي حيث أخذا يسخران من غضب الحكومة، على الأبيات التي كتبها الرصافي للترحاب بقدوم صديقه الريحاني إلى العراق: أأمين جئت إلى العراق لكي ترى.. ما فيه من غرر العلي وحجولهعفوا فذاك النجم أصبح آفلا.. والقوم محتربون بعد أفوله وفي الخمسينيات من القرن الماضي يكتب السياب إلى صديقه عبد المنعم الجادر رسالة يحن فيها إلى بغداد، ويرغب في أن يجلس ساعة او يمشي ولو بعكازين أحمقين في شارع أبي نواس، شارباً الشاي في مقاهيه او آكلاً السمك النهري. اليوم يريد لنا سياسيو الصدفة أن ننزلق إلى عصور الظلام، والعتمة!، وان لا نسمع سوى صرخاتهم المتشنجة، بديلا عن أصوات القبانجي وسليمة مراد وزكية جورج وناظم الغزالي وداخل حسن وحضيري أبو عزيز وعفيفة اسكندر، هؤلاء الذين ملأوا ليالي أبي نؤاس فرحا، ولم يكن يدور بخلدهم يوما ان تتحول بغداد بقرار حكومي الى مدينة أشباح. في كل دول العالم المتحضر يخلدون التاريخ بالجغرافيا، ويحتفون بالأماكن التي شهدت مسرات وأفراح شعوبها، وفي أكثر من عاصمة هناك مواقع تحولت إلى اماكن تاريخية وثقافية لارتباطها بمحطات مهمة في مسيرة بلدانها. للأسف لم تقدم لنا أمانة بغداد مبررات وجيهة لإنقاذ البلاد بهذه السرعة الغريبة من شارع أبي نواس وخضرته وتاريخ أشجاره، وإذا كان لا يحق لأحد أن يصادر حق بعض المسؤولين في أن يروا في أنفسهم ما يشاؤون من بطولة وفروسية، فإن من حقنا أن نطالبهم بتقديم الدليل على أن شارع أبي نواس، كان جزءاً من نظام صدام، وإنه مشمول بالاجتثاث استنادا إلى كتاب هيئة المساءلة والعدالة الصادر هذا الشهر، والى فتوى دراويش الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأننا نريد أن نعرف كيف استطاع هذا العميل الشرير أن يخدعنا كل الوقت، ويقنعنا بأنه مع العملية السياسية وثوري حد النخاع، فيما هو يريد أن يقف بوجه الحملة الإيمانية التي يقودها حجاج الحكومة؟فيا أشاوس الحكومة قبل أن تنقذونا من العميل أبي نواس نطالبكم بأن تفرجوا عن وثائق عمالته، واحكوا لنا قصة قصائده التي كتبها في مديح القائد الضرورة.
العمود الثامن: الحكومة تريد اجتثاث "أبو نواس"
نشر في: 17 سبتمبر, 2012: 09:09 م