احمد المهنالازلنا نحن عرب العصر الحديث نمثل نموذجا على الأقوام المحكومة بأنواع المعرفة القديمة. وهي "المعرفة" التي انشغلت او اهتمت بكل شيء عدا نفسها، فلم تخض مغامرة "التأمل الذاتي"، أو "النقد الذاتي". واذا وجدت لدينا مثل هذه "المغامرة" فعلى سبيل الاستثناء الذي يؤكد ولا يلغي القاعدة.
ومن قبيل هذا الاستثناء المفكر صادق جلال العظم، الذي لم يحد في كل مؤلفاته عن طريق أو نهج "النقد الذاتي". ولكن ها هي بلاده تعطي المثل على القاعدة في فكرنا، وهي البعد عن تأمل الذات، والغربة عن المعرفة الحديثة. وهي معرفة صدرت عن حسن تقدير لطبيعة الانسان، وحكم مرير على طبيعة الانسان. وكانت نتيجتها نقل السلطة من بين يدي الانسان، الى يدي القانون المتجسد بمؤسسات وهيئات تحد ما أمكن من أهواء الانسان الأصلية الفاسدة.والعظم مثال، له بالطبع نظائر، في الاستثناء على هذه المعرفة الحديثة. بينما سلطة بلاده مثال متطرف على القاعدة في انتمائنا نحن العرب الى عصور ما قبل هذه المعرفة. هو فكر الحرب على حكم الانسان الفاسد. وهي ترجمة لحكم الانسان الفاسد. ان القول بأن "السلطة مفسدة" وان "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" ثمرة منعطف في وعي الانسان لذاته، وفي معرفة الانسان لنفسه. وهي نتاج خالص للفكر الغربي الحديث.ومعنى هذه الثمرة المرة ببساطة هو أن كل سلطة شخصية فاسدة. ولذلك ينبغي تحرير السلطة من الأشخاص ونقلها الى المؤسسات. وبما أن الأشخاص في البلدان العربية عموما هم الحاكمون وليست المؤسسات، فان علينا التيقن من أننا نواجه سلطات لا تكترث بأي مبدأ أخلاقي، لأن السلطات لا تفعل ذلك عن طواعية. السلطان لا يتحسن بالإيمان. بل أنه غالبا ما يتوحش أكثر لأنه يضيف "الدين" الى عدة جبروته. والسلطان لا يتأنسن بالأخلاق. واذا حدث ذلك فعن طريق الصدفة النادرة. ان السلطان يتأنسن بالسلطان: أي بسلطات أكبر منه. ولم يكشف التاريخ عن محاولة جدية لأنسنة السلطان بالسلطان أكبر من الصيغة المعروفة باسم "الديمقراطية". وهي صيغة تقزيم سلطة الفرد وتعظيم سلطة المؤسسة. فمثلما يواجه الفرد قوة الدولة، من شرطة ومخابرات ومحاكم وسجون، لمنعه من ارتكاب الجرائم، كذلك يواجه الحاكم قوى أخرى للدولة، وهي القضاء والبرلمان والصحافة والنقابات وقوى السوق، لمنعه من ارتكاب المفاسد.اننا نكرر كل يوم كلمات اللورد أكتون الشهيرة عن مفسدة السلطة. وحكامنا يكررون كل يوم ارتكاب الأفعال المعبرة عن مفاسد السلطة. والحقيقة تكمن في الأفعال لا في الأقوال. فنحن ما نفعل وليس ما نقول. والمؤرخ اللورد أكتون (1834 – 1902) قال تلك الكلمات ليس من رأسه، وانما من منعطف معرفة حديثة أدت الى ولادة نمط سلطة حديثة. انه لم يستخرج حكمة من رغبة، وانما وضع يديه على احدى خلاصات مسيرة المعرفة والسلطة في التاريخ. وهي خلاصة وصلتنا منها الكلمات دون الأفعال. الكلمات دون معانيها. فالأفعال هي معاني الكلمات. ولسنا من حيث المعرفة والأخلاق غرباء عما يفعله الأسد. ولذلك لا نكترث "حقا" بفظائعه. واذا اكترثنا، بفعل "الشديد القوي" الذي يجاوز الحد، طلبنا الانقاذ من غيرنا. واذا استجاب الغير سرعان ما ننسى فضله ونعود الى سيرة حليمة. سيرة التحرر من أي صيغة ملزمة للحكم بأخلاق. وليس هناك مثل على ذلك أفضل من العراق. انه تخليص السيرة في تلخيص حليمة.
أحاديث شفوية: تلخيص حليمة
نشر في: 24 سبتمبر, 2012: 09:30 م