شاكر لعيبيأعترف بأن هذا عنوان ثقيل الظل قليلاً. لكنني قلّبتُ الكثير من الاحتمالات لعنوان الفكرة التي جالت بذهني، من أجل هذا العمود، فلم أجد إلا الأقرب إليه: "الشاعر الأحول". ما قد يشفع لي هو أن عصور الثقافة العربية جميعاً شهدت شعراء سُمّوا بالأعور. في العصر الأموي نلتقي بحكيم الأعور الكلبيّ والأعور النبهاني وأوس بن الأعور ذي الجوشن والد شمر قاتل الحسين، والأعور الحرمازيّ.
وفي الجاهلية كان عُورانُ قيس خمسة شعراء: الأَعور والشمَّاخ وتميم ابن أُبَيّ بن مقبل وابن أَحمر وحُمَيْد بن ثور الهلالي. أما الأعشى المازني فاسمه عبد الله بن الأعور، على رأس ذلك كله، والأكثر دلالة، يوصف المسيح الدجّال حسب حديث نبويّ بالأعور. العَوَر والحَوَل كانا أيضاً رديفين واستعارتين لاختلاط التناسبات الطبيعية واختلال الموازين والمعايير، وليس بالضرورة وصفاً لخللٍ فيزيولوجيّ تكوينيّ قد يصيب الإنسان بسبب حادث أو بالوراثة. بهذا المعنى قيل للغراب الأَعور لأن الأَعور عندهم مشؤوم، وهكذا استخدمت الصفة: طريق أعور أي معوج، كلمة عوراء للقبيحة، وغير ذلك الكثير. وبهذا المعنى تتوجب قراءة بيت ابن القيم الجوزية في نونيته: "نظروا بعيني أعور إذ فاتهم - نظر البصير وغارتِ العينان".وبهذا المعنى نفسه أيضاً قال شاعر ظريف في خياط أعور يسمى عَمْراً‏:‏ "خاط لي عَمرو قَباءْ- ليت عينيه سواءْ- فاسأل الناس جميعاً - أمديحٌ أم هجاءْ".وفي ثقافتنا الشعبية العراقية ثمة نكتة معروفة، والنكتة نوع من المجاز، تذكُر أن "الأعور يُكلَّف أثناء خدمته العسكرية بمهمّات القصف العشوائي". وطرفة أخرى كانت متداوَلة سنوات السبعينيات (ولعلها قائمة) تصِفُ عارض الأفلام في السينما عندما يتكرّر انقطاع الفيلم بالأعور، وهذا المعنى المجازي هنا لا ينتوي التقليل من القيمة الإنسانية للمصابين بعلل جسمانية، مع أن هناك، عموماً، فظاظة مدانة في الثقافة العربية بهذا الشأن.فكرتي هي أن أصِفُ خللا ملتبساً في "الرؤية" لدي بعض شعرائنا عندما يعالجون ظاهرة أو واقعة ثقافية أو سياسية، ويُصاب البعض بغشاوة عند الأحداث الكبرى التي تحتاج بصراً حاداً، كالصقر، مثل الأحداث المشهودة اليوم. أزعم أن الخوض في الراهن الملتبس يستلزم عيناً تليق بعين الشاعر الثاقبة بعيدة المدى، تلك البصيرة التي تستنبط من الواقعة درساً شاملاً، أبعد منها، ومن دون التعالي عليها أو الاستخفاف بها. فكرتي هي أن هناك مفارَقة بين "رؤاهم" الداخلية بصفتهم شعراء و"رؤيتهم" المكتوبة أو المعلنة، بين "طليعيتهم" النظرية و"مواقفهم" الفعلية التي تهبط إلى مستوى العاديّ والنميمة. لقد أعْوَرَ الالتباس الراهن رؤية البعض، عبر ازدواجية فظيعة، تؤمن (بالجماهير) مرة، وتكفّر مواقفها مرة، بين مواقف علمانية نظرياً وتأييد علنيّ للميتافيزيقيا ومن يمثّلها من حركات سياسية مرة أخرى، بين الإيمان (بالثورة) والقبول (بالقبيلة)، بين (الثورات) و(السلفيات الجهادية)، بين المنفعة والخوف وهو الأخطر، لأن هذه التأرجح بين (المنفعة) و(الخوف) لا يليق بالمثقف الحرّ، إنما بنقيضه، كما نعرف جميعاً. إن التقلب بين رفض الدكتاتورية لفظياً والرضا بها واقعياً، بل تبرير أفعالها (وهو ما شهدناه فترة طويلة لدى مثقفين عرب كُثر في العراق ونشهده اليوم في سوريا) يُنتِجُ الشاعر الأعور عن جدارة. إنه يقوم بالقصف العشوائي بجميع الاتجاهات، كما في الطرفة العراقية.نعرف أن بعض التناقض في الحياة، وخاصة عند معالجة مشاكل ثقافية ووجودية عويصة، كما يلمّح بورخيس، إنما هو طبع شبه عفويّ لدى المثقف الحسّاس الذي يُقلّب الأمرَ بأسىً وحَيْرَةٍ. ولم يكن بورخيس يخاف منه. بعض التناقض وليس كله، وفي حالاتٍ ليست حالات البداهة المشْمِسَة. أصيب بورخيس (بالعمى) لكنه ظلّ يمتلك (الرؤيا) الشاملة التي يتمناها المرء للشعراء جميعاً في كل العصور والثقافات.
تلويحة المدى: الشاعر الأعور
نشر في: 28 سبتمبر, 2012: 05:39 م