سرمد الطائياكثر شيء جيد حصل لي خلال الشهور الماضية هو فرصة لقاء اعضاء مجالس المحافظات، ضمن جولة مع الاصدقاء نقوم خلالها بإعداد مواد صحفية تنشر لاحقا. ذلك ان بغداد تقدم لك حكاية ناقصة عن ادارة الدولة، بينما الجزء المهم الاخر من القصة يظل في المدن البعيدة.
بغداد مصابة بدوارها الخاص وغائصة في عنفها. ارتباكها يجعلها تتلعثم ولا تقول الحقيقة. في المحافظات يمكنك ان تجد لهجة اصدق، وخوفا اقل، وتلعثما اخف.هذا ما حصل معي حين زرت عددا من مدننا العزيزة. لقد التقيت مسؤولين يسجل الناس عليهم ملاحظات كبيرة، لكنهم يتحدثون في كثير من الاحيان بلغة اعتراف فيها كثير من الحقيقة، ويرشدونك الى مفاصل ترتسم عندها كارثة الاعوام العشرة التي مرت علينا، او ضاعت علينا اذا شئتم. احد المسؤولين في محافظة الانبار اثار اعجابي كثيرا في آخر محطات جولتي تلك. دخلنا عليه ووجدناه غائصا في اتصالات هاتفية لا تنقطع. كان يسأل عن آخر تطورات العنف الذي اجتاح في تلك اللحظة عددا من مدن العراق. التفت قائلا: "أريد ان اتأكد هل ستشملنا المفخخات اليوم؟ علينا وضع القوات في الانذار كي نحاول تقليص الخسائر البشرية".راح يسأل ضابطا بدا كبيرا في بغداد: هل ورد اسم الرمادي ضمن الاهداف التي تحدث لكم عنها المعتقل فلان؟ انه يسأل عن قيادي في الجماعات المسلحة يبدو ان جماعتنا حصلوا منه على اعترافات مهمة قبل بضع ليال. المسؤول في الرمادي كمن يحاول استكشاف خارطة موت. هل تقع مدينته على خارطة موت يوم الاثنين ام لا؟اما انا فشعرت ان كل أحبتي يعيشون على خارطة كبيرة في غرفة محقق امني ما. المتهم يدلي ببعض الاعترافات فيكشف كيف سيتحرك الموت بعد بضع ساعات. وابناء البلد قد يتساقطون اثناء الادلاء باعتراف او بعده بساعات.المسؤول في الرمادي يشتكي: تأتي معلومات كثيرة وحين لا نحسن التعامل معها يموت اهلنا من البصرة الى الموصل. هناك نقص خبرة في معالجة المعلومة الامنية، والجميع ينزف بلا رحمة.سألته عن تحديات العمران في مدننا كلها، وكيف كانت تجربته خلال الاعوام الماضية. كنت اسأل كمواطن شبه يائس، مسؤولا مفعما بالتفاؤل. تحدث لي بتفاصيل واسعة عن المشاكل، وهو يقول: هناك تطور طبيعي بطيء، يمكن ان نستسلم له ونترك الاشياء تتقدم على ساعة التاريخ البشري البطيئة. وهذا سيعني اننا لن نرى مدنا بمستوى معقول الا بعد 30 عاما. والمطلوب من مسؤولي العراق ان يخرجوا بلادنا عن توقيت التاريخ الطبيعي، الى توقيت الايقاع العلمي الذي يقوم بتسريع التاريخ. وعندها يمكن ان نختصر 30 عاما بعشرة فقط. وقد ضاعت علينا على الاقل 7 سنوات بلا عمل.لكن المسؤول هذا عاد بي الى طفولته وعن الرمادي ايام زمان. يقول: كنت مجرد مراهق في بعض مدن الانبار قبل 40 عاما، وبدأت الحكومة بتبليط الشارع المار امام بستاننا. وكانت عادات الناس تفرض على كل عائلة ان تقدم الخدمة والطعام لجميع العمال. وحيث كان بستاننا كبيرا فإنهم ظلوا يعملون امام املاكنا 4 ايام، وأتذكر كيف ارهقنا القيام بالواجب مع العمال وأدخل عائلتنا في الانذار ايام كانت الظروف اللوجستية صعبة جدا، وكان تأمين الماء لوحده يحتاج امكانيات دولة.يضيف: حين بدأنا بتبليط الشوارع مرة اخرى قبل بضعة اعوام اكتشفت ان "الآية انقلبت" بعد كل هذه السنوات. فبدل ان يتمسك الناس بتقاليد الماضي ويكرموا الكوادر الفنية، ظهر اشخاص يمنعون المقاول من العمل امام املاكهم الا اذا منحهم حصة من ارباحه! وهذا تشوه في روح الانسان العراقي اصعب بكثير من دمار الحروب على العمران المدني. في تلك اللحظة "لم يكن اهل الرمادي، هم اهل الرمادي الذين عرفتهم في الماضي".سألته: كيف راقبت هذا التشوه الروحي بعد ذلك؟ اجاب بتفاؤل: الامور بدأت تتحسن صدقني، حين استعدنا جزءا بسيطا من هيبة الدولة، وشعر الناس بأنهم بدؤوا يحصلون على شوارع معبدة تخدمهم جميعا، صاروا يتعاونون معنا. ليس مثل الماضي بالضبط، لكن بفرق كبير عما كان عليه الوضع في الاعوام الصعبة.ان الامر لا يقتصر على الرمادي وحدها. في وسعنا ان نلاحظ التشوه في كل مكان. وأردد مع صاحبنا: لا يصلح تشوهات ارواحنا سوى نموذج ملهم من السلطة الحاكمة يقدم للناس الامل، ويوقظ فيهم الاحساس بالخير. كما صنع جماعة "انا اقرأ" الذين ذكرت حكايتهم يوم امس.
عالم آخر: أهل الرمادي ليسوا أهل الرمادي؟
نشر في: 1 أكتوبر, 2012: 08:44 م