صباح محسن كاظممن نافلة القول، أن التجربة الثرة للحروفي المبدع أديب كمال الدين تحتاج إلى كثير من الفحص، والتحليل والرصد، والمتابعة والتأويل. فثمّة نكهة للحرف، وقدسية للوصل، والمعنى، والجوهر، والهيام، والقسم، والعلامة، والرمزية في الإنشاء والتكوين، والمعرفة، والسيمياء، والدلالة والانزياح في نصوصه. فحروفه غير مستنسخة من مفردات شاعر آخر، وثياب تلك الحروفيات ليست مستعارة من خزائن أخرى.
إن تجربته الناضجة الضاجّة بالحروف الاحتجاجية أو الوصفية (القدسية) في نصوصه عن الرموز المقدسة تفصح عن قدرة فائقة في الإدهاش، فالصوفي المائز كمال الدين، ونحن نتسلق المراق الكمالية بشدوه لعقود خلت منذ ديوانه البكر: (تفاصيل) 1976 إلى نتاجه: (أقول الحرف وأعني أصابعي)2011 ثم إلى (مواقف الألف) 2012 (منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون)، في هذه الرحلة الشعرية المكتظّة بالثراء الشعري البهي المؤطّر بنسق عرفاني صوفي يعانق الروح ويعرج بها نحو السمو في أربعين نصاً إبداعياً جسّد ذلك بديوانه (أقول الحرف وأعني أصبعي). من نصّه الأول (ثمّة خطأ) نقرأ:ثمّة خطأ في السريروفي الطائرِ الذي حلّقَ فوق السريروفي القصيدةِ التي كُتِبَتْلتصفَ مباهج السريروفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السريرفي آخرِ المطاف.يقول ابن عربي: 2 (الإرادة أثر وجهي، وخبر ذاتي، إذا اهتاجت في القلب، تسلب القرار من العبد، وتسوّد وجه الحظوظ النفسانية بالسحاب والرعد، وتسوق العبد إلى مطالعة جد الله في مواجيد الحد، لا جرم يفارق الفراش، ويلازم الانكماش، ويعالج الأخلاق، ويمارس المشاق، ويعانق الأهوال، ويفارق الأشكال).rnتحيلنا نصوص الشاعر إلى الانسجام الإيقاعي بالوجد الروحي نحو الكمالات، والاندغام بلغته العالية، بفيض اللغة والمفارقة والمشاكسة وهو يهزأ بما يصيب الوجود الإنساني إزاء المأساة والأسى ومرارات الانكسارات والغربة التي يُصاب بها من العسف السياسي والحروب وغلبة الظلم وإهدار الكرامة بأبشع الصور المؤذية في الإنسانية. ويتجلّى التأمل والتجريد في أسئلة الشعر الصوفي المحلّق بالروح، يتجلّى في الإعجاز اللغوي للوصول إلى المعنى. لقد فحص تجربة الشاعر أديب كمال الدين عشرات النقاد والأدباء، وتميّزت دراسة د. حياة الخياري بالغوص لاستخراج تلك اللآلئ والجواهر في عمق المعنى وسبر أغوار تلك النصوص الحروفية الصوفية المتعالية في كتابها الجميل الذي حاولت فيه بجدّية وجهد فتحَ كشوفات بحروفايته، وفك رموزه، وشفراته، وإلقاء حزمة من الضوء على – حروفياته - مرادها وإحالاتها ومدلولاتها. وقد برعت في مؤلفها الشيّق: "أضف نوناً: قراءة في "نون" أديب كمال الدين"3 الصادر مؤخراً عن الدار العربية للعلوم ناشرون. ومن ثريا العنوان، أضف نوناً، فعل الأمر؛ تصطحبنا المؤلفة برحلة سياحة جمالية بلاغية ثقافية تتعشق في الوجدان العربي لقدسية الحرف، وما ورد من قسم به بالقرآن الكريم، ولغتنا الجمالية ببلاغتها وتأويلها ومنظومتها المعرفية وجزالة ملفوظاتها وسحر معانيها ودلالاتها وانزياحاتها مع تناصّها تثير الشهوة بالحرف وقيمته المقدسة. تذكر د. حياة الخياري في ص13 من مؤلفها القيّم (... فإنّ الشّعراء الحروفيين يجترحون تعريفاً للحرف من أعماق ذواتهم، منبّهين منذ البداية إلى أنّ الشّعر إنّما يخوض تجربة في "ذوتنة الحرف"(لا ريب أن التصوف هو البحث في النقاء ، للتخلص من أدران الخطيئة التي يبحث عنها المريد والعارف. وفي الرحلة الشعرية لكمال الدين نجد السير باتجاه شمس الحرية والانعتاق من الأغلال والأصفاد التي تعكر صفو النفس الإنسانية للتهذيب، والانطلاق نحو الوجد والعشق الإلهي والذوبان بإخلاص إلى القيّم الساميّة والرؤية الإشراقية للنفس البشرية.وفي ص17 تذكر الخياري" :تبدأ النّون رحلتها بوجودها في حقل دلاليّ تكتنفه ملابسات معرفيّة تنهل من معين صوفيّ، ولا تنأى عمّا حفّ بالأساطير من زخم رمزيّ يستشرف الخلود، مما يدعونا إلى تبّين وضع نقطة النّون من دائرتيّ الفلَك والفُلك فصلا ووصلا". ثم تعّرج د. حياة في بحثها المعرفي والجمالي العميق لتستطرد برحلتها مع الحرف لأديب كمال الدين، وتمر برحلتها الكشفية والتفصيل بالتناص مع الحروف المقطعة في رؤوس بعض السور القرآنية، ص30 "إن اللّغويين، شأنهم شأن المفسرين، قادهم نظرهم إلى الرّبط بين سيمياء حرف النّون وسيمياء الأسماء الدّائرة في فضائه القرآني، وأهمّها اسم النّبيّ يونس الذي التقمه الحوت فكنّى عنه الله بذي النٌون،"...وقال: الغُربةُ غُربة الليلأسلخُ منه النهار.ثُمَّ غُربة النهارلولا الشمسوهي تجري لمُستقرٍ لها.ثُمَّ غُربة النجوملولا مواقع النجوم.ثُمَّ غُربة نُوح والفُلْكِ المَشحونثُمَّ غُربة صالح في ثمودوغُربة موسى وعيسى.وقبلهما غُربة يوسف ويعقوبثُمَّ غُربة مَن أرسلتُه رحمةً للعالمينيوظف الشاعر التكرار لعبارة "غربة" حتى يعدد تجلّياتها المخزّنة في الذاكرة. غير أنّ ما يعنينا هو ذاك التّقاطع بين الغربة الوجوديّة في بعدها الزّمنيّ وغربة الأنبياء في بعدها الإنساني، لذة الكتابة ولذة الخطاب ونشوتهما بالتوحد مع قيم الجمال والروح والفكر والوعي والتطلع لتقديم المتعة البصرية، فضلاً عن التفاعل الروحي مع المتلقي، فالشاعر مُعبر ع
قراءة في كتاب د. حياة الخياري: "أضف نوناً "
نشر في: 2 أكتوبر, 2012: 06:54 م