نجم واليعلى الصعيد السياسي نحن سعداء أن أحد الأمور التي أصبحت طبيعية هو أن المرء يجوز له التعبير عن رأيه بحرية. على الأقل على المستوى النظري، لأن حرية التعبير هي حق مكفول في الدستور العراقي الجديد. ومن عاش الديكتاتورية والمطاردات والسجون والتعذيب والمنافي بسبب رأيه يعرف ماذا يعني الحصول على هذا الحق،
مثلما يعرف، أن الحق المكتسب الجديد هو حق إنساني عام، صحيح أننا لم نحصل عليه إلا بعد 9 أبريل 2003، لكن شعوباً أخرى سبقتنا بالتمتع به وعلينا على الأقل أخذ بعض الدروس منها. حرية الكلام هي خلاصة جوهر الديمقراطية. السكوت والتسليم للأمر الواقع والخنوع، هي علامات بالتنازل عن هذه الديمقراطية، إذا لا تعني في النهاية القبول بالديكتاتورية من غير المهم ما تحمله من كوارث وأهوال. في حوار معها منشور في مجلة شبيغيل الألمانية الأسبوعية قبل أيام بمناسبة صدور ديوان شعري جديد لها "الأب يتهاتف مع الذباب"، (وهو أول كتاب لها بعد حصولها على النوبل)، لا تخفي الروائية الرومانية الألمانية الأصل استنكارها للتراجع الحاصل في بلدان أوروبا الشرقية في الفترة الأخيرة، في رومانيا وروسيا وأوكرانيا وهنغاريا على وجه الخصوص، إذ بالذات هذه البلدان التي كان من الممكن لها أن تتطور باتجاه الديمقراطية بعد التحول الذي حدث لها إثر انهيار النظام الشيوعي، تدخل الآن مرحلة التنازل عن هذه النعمة، نعمة الديمقراطية. المؤلم بالنسبة لمولر هو أن الأمور تعود إلى الوراء وكأن تحولاً لم يحدث في تلك البلدان، كأن العشرين عاماً التي مرت، مرت هباء، وفي بحثها عن تفسير لما يحدث هناك خاصة في بلدها السابق رومانيا، بالنسبة لها، أن الحزب الحاكم في رومانيا والذي يُسمى بالحزب الاشتراكي الديمقراطي هو بقايا الحزب الشيوعي القديم الذي يعمل كل ما في وسعه الآن لحماية الرعيل القديم، ولتحقيق ذلك يتم التجاوز على دولة القانون، والاستحواذ على جميع المؤسسات المهمة عن طريق تعيين أعضاء الحزب على ترأس قيادتها. عجلة الزمن تُرجع إلى الوراء. حزب واحد يقرر كل شيء، تصفية المعارضين باسم الديمقراطية، ومن أجل ذلك لا يهم تزوير الانتخابات أو التهديد بإقالة قضاة المحكمة الدستورية. طبعاً الكارثة هي أن الذين يجلسون على رأس الحكومات بعضهم في عمر الشباب. الهنغاري فيكتور أوربان والروماني فيكتور بونتا لم يتجاوزا العقد الرابع من العمر. فيكتور بونتا عمره 39 عاماً. وإذا عرفنا أن الشباب هؤلاء تربوا على يد ديكتاتوريات من نمط ديكتاتورية تشاوشيكو، لن نستغرب ما يحصل من تطور مخيف. وقاحة هؤلاء وصلت إلى حد تزوير الشهادات الأكاديمية التي يدعون حصولهم عليها. الاثنان مثلاً يحملان لقب دكتور رغم أن الجميع يعرف أنهما لم ينهيا دراستهما الجامعية!لكن أليس ذلك ما يحصل عندنا أيضاً؟ لا أقصد طبعاً حملة لقب الدكتور الذي حصل عليه العشرات من سياسيين وأعضاء برلمان ومدراء عامين، من سوق مريدي والعورة، من سوق ﭼمالة والكيارة وغيرها من الأسواق، والذين رغم معرفة القاصي والداني بأن حملهم للقب هذا هو دمغة الكذب الأولى على سيماء وجوههم، بل أقصد ما يحدث من تنازل تدريجي عندنا على هذه النعمة: نعمة الديمقراطية، وخاصة في أواسط المثقفين، فمن غيرهم يعرف ماذا تعني: حرية التعبير؟ وما تشكو منه صاحبة النوبل في ما يتعلق بالسلوك المنافق لبعض مثقفي بلادها شبيه أيضاً لما يحدث عندنا. أليس من المؤلم أن نقرأ من حين لآخر حواراً مع مثقف بعثي سابق لا يتطرق فيه هو ولا محاوره إلى ماضيه، كما حدث قبل أسابيع في حوار منشور في أحد ملاحق جريدة المدى مع شاعر بعثي سابقاً وبامتياز، شاعراً كان رئيس إتحاد وطني لطلاب جامعته، وطبيباً في دواجن عدي صدام، شاعراً يتحدث عن الأساطير وما بعد الحداثة والنساء دون أن يتطرق لا هو ولا محاوره بكلمة واحدة إلى ماضيه وكيف أن مجلة ألف باء البعثية قدمته هو وثلاثة من جيله في بدايات السبعينيات بصفتهم شعراء الحزب والثورة الرسميين؟أن يزوّر برلمانيون شهاداتهم الجامعية ويحصلون على ألقاب الدكتوراه ولم يكمل بعضهم الدراسة الابتدائية، أن يسرق سياسيون ومدراء عامون من خزينة الدولة ليل نهار، أن يتصرف من يدعي حماية القانون بخرق القانون، أن يتبوأ بعثيون سابقون مناصب مهمة ويتكلمون في القنوات الفضائية والصحافة بأعلى الأصوات، كل تلك هي أمور ممكنة الحدوث في كل الديمقراطيات الفتية الناشئة، لكن الوقوف في وجهها وفضحها والتصدي لها هو المهم، إذ فقط بهذا الشكل، نستطيع الحفاظ على النعمة الجديدة: نعمة الديمقراطية. اليأس والسكوت عن الكذب، الخنوع والتنازل عن كل معارضة ستعود في البلاد عقوداً إلى الوراء، كوارث وقتل وتشرد وسجون وحروب، هذه المرة باسم الديمقراطية وحماية القانون!
منطقة محررة: عن النعمة هذه التي اسمها الديمقراطية
نشر في: 2 أكتوبر, 2012: 06:57 م