اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > إيمان محمد والتشكيل من وحي الكلمات

إيمان محمد والتشكيل من وحي الكلمات

نشر في: 5 أكتوبر, 2012: 07:18 م

د.علي ثوينيعادة ما رددت إيمان بأن لها عشرة أصابع، كل واحد له موهبة، وهذا عين الصواب، فإيمان التي عرفناها دائماً معطاءة، ومتعددة المواهب، وجامعة المشارب، حتى أنها لا تكتفي بضرب من الإبداع دون أن توغل فيه سبرا وتنضج فيه روحاً، فهي القاصة والأديبة والشاعرة والمصممة. وبالرغم من أنها درست الاقتصاد في الجامعات العراقية، فإنها سبقّت وغلبّت السليقة الباحثة عن الجمال والكمال على مجمل منتجها، حتى لنعدها طاقة وثابة ومبادرة ولا تستكين وترفض الانزواء والنسيان، فتنهمر تلك الروحية مخترقة كل توظيف وممتثلة لكل موائمة، ومسبغة منهجا إبداعيا لا يشذ في طرقِ عن سواه.
كم هي ثقيلة تلك الغربة عن الأوطان، لكن غربة الأرواح وقعها أثقل من غربة الأبدان. ففي لجة المغتربات، التي أمست قدر الكثير من المبدعين العراقيين مجبورين لا مجبولين. مسكينة هي تلك الروح المعذبة لمن اغتربوا، حينما ترادفت وتراكمت على كاهلها خيبات الأمل وكم الانكسارات، فلجأت للبوح والتفريع من خلال التفكير والإبداع والتدبير أكثر من مطالبتها بحرية التعبير، التي أمست مثلما دعي "الخبز الخافي" أو شغل ما لا شغل له، فالتفكير بالحلول من خلال انفجار الذات المتجلية أجدى من الشكوى والتمشكل، وإن كان كم الإبداع نابعاً من ظرف، وتابعاً لما نلاقيه من خذلان وحسرة، فجدير أن يكون العراقيون، آخر من يصنع الإبداع ويشيد للكلمات الواعية سياقا وسجالا وسردا، وللون موطأ قدم وموقعا على حامل. وهكذا كان الأمر مع إيمان التي أترعت بخيبات الأمل من وضع عام مترد، فلجأت إلى الذات ملاذاً واللوحة حثا وتفريغاً، فكتابة قصة أو إنشاد شعر أو ولادة لوحة هو مخاض وفرح، نأياً عن الاحتقان والحزم. فكان لها أن تظهر ما تضمر من ويل وحسرة، فأمسى اللون المجرد عبرة والتكوين التشكيلي مودة ، كما هو السرد المتدفق عندما تكون روائية أو النظم حينما تصبح شاعرة. اليوم كان لنا معها لقاء ضمن مناسبة اتحاد الأطباء العراقيين في ألمانيا 8-أيلول/ سبتمبر/ 2012، على نحوٍ احتفالي، فقد تمَّ ترشيح إيمان محمّد لتقديم صورة مشرقة للفن العراقي الجميل، ولقد كان هذا الاختيار موفقاً من زوايا ثقافيّة عديدة ، فقد عكس في إحداها قدرة الإنسان العراقي الذي عاش تحت وطأة الحروب والموت والدمار والتهميش والمساومات والتحاصص والمتاجرات، أن يبعث من تحت رمادها عنقاء ينبض به عرق يؤكد البقاء، ويُثبت للعالم قدرته على العطاء ، الذي أريد له عكسه، وصحّحَ من خلال ذلك ما روج عن هامشية هذا الإنسان الذي عانى متاهات الحلول المملاة عليه، حتى لم يعد له من ملاذ سوى التعبير عن ذات نابعة وغير تابعة، والصنع دون التصنع، رمزاً ومواراة ومجازاً.التورية ليست تعمية، والرمز هو حاكم كل شجون حياتنا، والمجاز يدلل العمق ودرء السطحية أما التجريد فليس تقليدا، حتى لو شاع في الفنون الغربية في الحداثة ابتداءً من  الروسي (كندنسكي)، فبدا للبعض أنه دخيل على فنوننا المترعة بها منذ سومر حتى منمنمات الواسطي. أما المنهج الرمزي والمجازي الذي تتبعه إيمان في لوحاتها، فهو غير صريح وظاهر، ومهاجنة بينه وبين تجسيد ضامر، فيه من الدلالات المكملة للفكرة والمتكاملة دون تكلف وإقحام مع سياق اللوحة من الناحية التشكيلية واتزان الكتل اللونية وانسجام عناصرها، وكذلك التدرج والتداخل والانسجام بين ألوانها، التي تبقى نابعة من نفس أنثوية مرهفة تشكو بصمت، وتنكر ذاتها، وتنشغل بالعموميات لكنها لا تهمل التفاصيل التي هي سليقة وفطرة نسوية، فنجدها أحيانا تقترب من المنمنمات في مدرسة بغداد بدقة المحتويات المكونة، وأحيانا تكون متماهية مع موندريان الهولندي في خطوطه المتصالبة المحددة لكتل اللون والتابعة لنسب جمالية، أملتها الفطرة أو الحس أو الخبرة، نابعة من نفس جبلت في البحث عن الجميل، تحاول إظهاره من خلال الفكرة قبل الصورة.بالرغم من عتمة الحال وتلبد النفس بالهم الذي يمر به كل عراقي اليوم، وأجدر أن يكون إنتاجه الأقرب إلى عتمة ألوان ممبرانت، لكن دفق الشمس وضوئها الهادر وتنوع اللون من بيئة إيمان محمد الأولى، قد صارع وأنتصر على بيئتها الألمانية المكفهرة  غربة وسماء، حيث يتدفق في اللوحة اللون المضي غير الصارخ، لا المعتم أو الفاقع، في حبكة من تدرجات وإسترسالات وتداخلات وانتقالات منسجمة بدرجاته الفاتحة عادة. حتى يوحي لنا بأنه شاعرية نابعة من دفق كلمات شاعر متفائل بقادم الأيام ونابذ للون الحرائق وقاني الدماء وفضاعة الأشلاء وداكن الفواجع . وبالرغم من الحبكة السوريالية في لوحاتها أحيانا، فإنها تنطلق من روح خضراء متفائلة وصريحة، ونجد لونا أخضر غالب غير مدغم.لدي إحساس بأن كلمات الشعر تنهمر على حيثيات اللوحة، وإن دفق التفعيلة ميزان متوار في تكوينها المتوازن، وشعور بأن ثمة بوحاً عجزت عنه الكلمات ليجد طريقه للتشكيل، و أمل بأن دفق الموهبة الضاربة بفعلها هنا، يكون فضاؤه هناك في بلد يئن من التناحر الأسود، فكم هي حاجتنا اليوم لأن يكون اللون سائدا ولغة حوار ، وأن تلون إيمان وطبقات الإبداع العراقي  حيثيات الحياة ، ويعلنوا قطيعة ونبذا لحالة النكوص التي تعم، ورفضا لرموزها من تجار التناحر وساكني العتمة والكارهين لطيف النور والجمال.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram