د. معتز محي عبد الحميدتخيلوا قبيلة همجية، تعيش في غيابة الجهل والبداوة، في جزيرة نائية، لم تصلها الحضارة الحديثة والعلم المعاصر، لا يؤمن أفرادها إلاّ بقوة ساحر الجزيرة، يأتيهم غزاة على ظهر سفينة، وعندما يتصدون لهم بأسلحتهم البدائية بقيادة زعيم القبيلة، يصوّب قائد الغزاة بندقيته من مسافة بعيدة، فيسقط الزعيم قتيلاً ويصاحب ذلك صوت انفجار لم يسمعوا له مثيلاً من قبل.
بعقلياتهم المشبعة بضلالات السحر والشعوذة، والغارقة في دجى الجهل والتخلف، سيعزون مقتل زعيمهم إلى قوة سحرية خارقة غير منظورة، يمتلكها قائد الغزاة، الذي لم يفعل شيئاً سوى أنه أشار بما يشبه العصا نحو زعيمهم فأرداه دون أن يلمسه، قوة لا عهد لهم بها ولا يمتلكها ساحر الجزيرة ولا الأصنام التي يعبدونها. سوف يذعنون لهذا الساحر الجديد ويمتثلون لأوامره ويبجلونه وربما يعبدونه أيضاً، وسيتسنى له السيطرة عليهم بإشارة من يده، اليد نفسها التي تمتلك - في نظرهم - أن تقتل من يريد بإشارة واحدة كما شاهدوا رؤى العين. على الرغم من مشاهدتهم للنتيجة الحتمية لاستخدام البندقية، إلاّ أن ماهيتها وآليتها وما يوضع فيها من ذخيرة وما ينطلق منها من مقذوفات يعتبر غيباً بالنسبة لأولئك القوم. كان من الطبيعي أن يروا ما حدث أمامهم خرقاً للقواعد المألوفة، وبهذا يفسرونه بالسحر، وهو الوهم الذي يساعدهم على تفسير كل ما يجهلون. في بداية السبعينيات لم يكن تكييف الهواء في السيارات قد انتشر في المجتمعات المدنية كما هو الآن، فإذا لاحظ ركاب السيارات، الذين لا يعرفون وسيلة للتهوية إلاّ فتح كل نوافذهم، أن نوافذ السيارة التي توقفت إلى جوارهم في الإشارة الضوئية جميعها مغلقة، على الرغم من شدة الحر، سيراودهم شعور بالشفقة على صاحبها، لظنهم أنه مضطر لتحمل الحر الشديد بسبب تعطل نوافذ سيارته فلا يستطيع فتحها. ماذا سيكون شعورهم إذا عرفوا بأن نوافذ تلك السيارة مغلقة لأنها مكيفة الهواء، وأن صاحبها الذي أشفقوا عليه من شدة الحر هو في حقيقة الأمر لا يعبأ بشدة الحرارة في الخارج، لأن سيارته مبردة بطريقة لم تستطع عقولهم إدراكها، وأن جهلهم بمسألة تكييف الهواء جعلتهم يخطئون الظن. هذا مثال آخر على العلم الذي يعتبره الجاهل غيباً، بينما يعتبره العارفون أمراً واقعاً وتحصيل حاصل. يستغرب غير العارفين كيف يمكن التنبؤ بالطقس أو بخسوف القمر أو كسوف الشمس أو الزلازل أو الأعاصير؟ علم الغيب بالنسبة إلى الإنسان العادي لا يعتبر غيباً بالنسبة للعلماء المتخصصين المتمكنين من زمام المعرفة والممتلكين للتقنيات الحديثة، ولذلك تصح توقعاتهم وتنبؤاتهم في معظم الأحيان إلاّ إذا استجدت عوامل وظروف غير اعتيادية تعتمد كثيرا من التنبؤات العلمية على علم الإحصاء؛ حيث تستخدم معلومات الماضي والحاضر في استشراف واستقراء المستقبل. يمكن التنبؤ مثلاً بعدد التلاميذ الذين سيلتحقون بالسنة الأولى الابتدائية عام 2020 في دولة معينة، عن طريق دراسة إحصاءات السنوات العشر الماضية، التي تشمل عدد المواليد، ومعدل وفياتهم وعدد الأطفال الذين يلتحقون بالسنة الأولى الابتدائية في كل سنة. العلة في تخلفنا وتخلف الأجهزة الأمنية لأنها لا تستخدم الإحصاء استخداماً علمياً صحيحاً، بل أن بعض القيادات الأمنية لا تستخدم الإحصاء مطلقاً، بل تنتظر ما يأتي به الغيب، وتفاجأ بكل النوائب، لأنها لا تستفيد من الماضي في التنبؤ بالمستقبل.
تحت المجهر: القيادات الأمنية وعلم الغيب!
نشر في: 7 أكتوبر, 2012: 07:19 م