TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر :آخر العراقيين العظماء

عالم آخر :آخر العراقيين العظماء

نشر في: 7 أكتوبر, 2012: 08:50 م

 سرمد الطائي قبل ايام كنت شاهدا على آخر أيام جني التمور قرب بغداد في بستان يملكه استاذ كريم، ومن زمان لم يقع بصري على شاب يتسلق نخلة ليجني ثمرها. رحت أحدق في اقدامه وهي تصعد برشاقة نحو القمة المحملة بعطايا الطبيعة، وللحظة شعرت ان هذا الجذع ليس مجرد كتلة ألياف تربط الجذر بالسعف المتعالي.
rn الجذع خارطة عليها آثار اقدام العراقيين منذ الازل، وهم يصعدون نحو العذوق والشراميخ والخراطيش.. معتنين بـالطلع و"الحبابوك" و"الجمري" ثم الخلال والرطب والتمر.rnسلالات لا تحصى مرت من هنا. آثار اقدامها انطبعت على "الكربة"، ومن بين السعف انطلق العراقيون نحو مصائر شتى فنقشوا الحروف في سومر وصنعوا العجلة في بابل وأكد. لم يكن مجرد جذع بقدر ما كان ممرا للآلهة التي خلقت العالم القديم. صعدت الجذع ثم واصلت الصعود والتقدم نحو كل شيء.rnالنخلة "اقرب الى الانسان" كما يقول اخوان الصفا في رسائلهم، حين يتحدثون عن سلّم الكائنات الحية بكلام يشبه ما سيقوله تشارلز دارون لاحقا. يقولون انها النبات الوحيد الذي يموت حين تقطع رأسه، كالانسان بالضبط. اما المزارع الذي يشرح لي العمليات الموروثة من زمن قديم، فيقول ان النخلة "انثى تتدلل" فالعام الماضي منحتنا كل نخلة نحو 20 عذقا مليئا بالتمر، اما هذه السنة فهي لا تعطينا اكثر من 8 عذوق. فهي "سنة تشتغل وسنة ترتاح".rnرحت احدق مع الاصدقاء في شكل العذوق الصفراء التي تحمل تمرا بلون البن والقهوة. نادرا ما تشاهد شيئا متقنا ومضبوطا في العراق، ولعل بعض ما تهبنا إياه السماء هو العمل المتقن الوحيد في بلادنا.rnبعض النخل هنا مزروع منذ عهد الملك فيصل ولا زال شابا ينتج كما يقول المزارع الطيب. فتيات بعمر الورد يتجمعن اسفل النخلة ويقمن بفصل التمر عن العذوق وتعبئته في الاكياس والصناديق. يقول انهن لا يتقاضين اجرا، بل يأخذن هدية من الثمار نفسها. الناس هنا ينظمون "كرنفالا" فهم يجنون التمور بشكل تضامني، ويدورون على كل حقول المنطقة.rnصاعود النخل الشاب لم يعد فلاحا تقليديا. انه عالق بين الارض والسماء، وفي اذنه سماعة مربوطة بجهاز الموبايل الذي يبث الاغاني. هل يسمع اغنية "فوق النخل"، فوق النخل؟rnلكن آلة الصعود او "التبلية" او "الفروند" لم تعد انيقة كما في السابق. هي مجرد سلك معدني بلا روح يشد قطعة قماش متهرئة. اما في الماضي فكان "الفروند" تحفة فنية ورأيته يصنع محليا في ابي الخصيب من ألياف جوز الهند و"الكمبار" والحبال المستخدمة في السفن بعروتين من الخشب معقودتين بإحكام وإتقان.rnكرنفال جني التمور هذا من الاشياء النادرة التي تشيع الفرح في بلادنا التي تعيش اكبر من تناقض. حرمتنا السياسة والعنف رؤية الحقول العظيمة التي كتبت فيها الآلهة تاريخ العالم القديم. وصرنا نعيش بين حواجز كونكريتية، ونعلق داخل سيطرات بلا نهاية، ونموت في الطرقات بلا سبب ونتكيف مع ظروف مدن خربة ووسخة بلا كهرباء.rnمخاوف المزراعين لا تنتهي. يتسع حجم الاراضي غير المزروعة على نحو غير مسبوق. والصحراء تكبر ورائحة الكلوروفيل الاخضر تتناقص. عالمنا يختنق ببطء اما العراق فهو أول المخنوقين بسبب فوضى السياسات العامة، والحقول تباع كقطع اراض لتشيد فوقها حقول قبيحة. تركنا الصحراء بلا عمران وجئنا لتخريب البساتين وتحويلها الى شيء يشبه احياء "الحواسم" التي يقيم فيها المساكين.rnالنخلة وآثار اقدام سلالاتنا العراقية على جذعها، هي مخزن لما تبقى من عظمة هذه الارض. وهي اذ كانت انسانا عند اخوان الصفا، فهي ايضا آخر العراقيين العظماء.rnrn

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram