فخري كريم
حدّد بول بريمر الحاكم المدني للاحتلال "الأخلاقية" التي ينبغي تكريسها لأفراد الجيش والقوات المسلحة التي أعاد تشكيلها وصاغ قيمها في إطار "حقوق الإنسان"، واستقدم مدربين من قيادة الشرطة الأميركية والجيش الأميركي لتأهيل "نواتات" القوات العراقية وقيا
حدّد بول بريمر الحاكم المدني للاحتلال "الأخلاقية" التي ينبغي تكريسها لأفراد الجيش والقوات المسلحة التي أعاد تشكيلها وصاغ قيمها في إطار "حقوق الإنسان"، واستقدم مدربين من قيادة الشرطة الأميركية والجيش الأميركي لتأهيل "نواتات" القوات العراقية وقياداتها، واختار نخباً منها للتَدَرّب في الولايات المتحدة.
ولم تظهر نتائج التأهيل والتدريب، أو لم يتلمس العراقيون وتتبين لهم أصول المعاملات معهم في مراكز القوات العراقية، شرطة كانت او جيشاً، لانها كانت أثناء حكم القيصر الاميركي تحت إمرة وتوجيه القيادة الأميركية نفسها، الا اذا كان ما جرى في سجن ابو غريب ومجمع المعتقلات والسجون الأميركية تطبيقاً للقيم التي تلقاها المتدربون العراقيون. لكن الترجمة المباشرة للجهد الذي بذلته ادارة بريمر في بناء التشكيلات الامنية والعسكرية بانت على حقيقتها المريبة باكتشاف آلاف المنخرطين فيها وسرعة تسللهم منها أو وضع اليد على كثرة منهم واعتقالهم او طردهم، بسبب التورط في العمليات الارهابية او مسلسل الخطف والاغتيال والسرقة والتخريب . ان عقيدة بريمر الامنية والعسكرية في التطبيق العملي انطلقت من طبيعة قوانينه وقراراته في التعامل مع الحالة العراقية ومشهدها التالي على التغيير في نيسان ٢٠٠٣. وقد اعتمدت معالجاته على "الهدم" ومواجهة تبعاته بالعنف والتصفية بالقوة العددية المفرطة، كما هي الحال مع "حل الجيش" بدلاً من "تهذيبه" وتطهيره، و"اجتثاث البعث"، او "المساءلة والعدالة " كما صار عليه لاحقاً، بدلاً عن "اجتثاث الاستبداد".
لقد حاول بريمر ان يستنسخ في كثير من قراراته وقوانينه أو يُسقطَ أوضاعاً سارية في المجتمع الأميركي والأوربي المتقدمة على الوضع العراقي، بصيغة القسر القانوني، وهو الجاهل بالأوضاع العراقية، السياسية والاجتماعية، والتقاليد والاعراف السائدة في المجتمع، مثلما كان جاهلاً بالمكانة الفعلية للشخصيات وما تمثله من تجليات، ودون ان يأخذ بالاعتبار التخلف المريع الذي يعاني منه العراق، بعد عقود عجاف من تعاقب الدكتاتوريات وما نتج عنها من خراب شامل .
ودون الدخول في تفاصيل ما صدر من قرارات انعكست سلباً على تطور العملية السياسية، وأدت الى ما تشهده البلاد من تدهور وازمات واستعصاءاتٍ سياسية واقتصادية وامنية، فان ابرز القوانين والقرارات التي اتخذها بريمر انطوت على تناقضاتٍ، كانت في اساس تحولها الى الضد مما أُريد لها من اهداف .
ويمكن اعتبار قانون "اجتثاث البعث" وقرار "حل الجيش" أبرز مثلين في هذا السياق. وقد انطلق قرار حل الجيش مثلاً من تقييم دوره في ظل النظام الاستبدادي بوصفه قوة ردع وقهر ضد ارادة الشعب العراقي، ووسيلة لتحقيق مغامرات رأس النظام الطائش من خلال حروبه العدوانية و "صولاته الإجرامية" ضد منتفضي آذار وفي الأنفال وغيرهما من استباحات، في اطار ما حددها له من عقيدة مخالفة لعقيدته الوطنية كسياج للدفاع عن السيادة والاستقلال الوطنيين. لكن بريمر تعامل مع جانب من هوية الجيش متناسياً جوانب اخرى يمكن لبيئة وطنية سياسية أن تستعيدها من تاريخه المشرف الذي سعت الدكتاتوريات المتعاقبة لطمسها ومحوها من ذاكرة العراقيين، ومتجاوزاً على حقيقة ان أغلبية الجنود وأفراد القوات المسلحة لم تكن تدين بعقيدة البعث، بل انها كانت مسلوبة الارادة مثل غالبية المنخرطين في حزب البعث الحاكم ، لأسباب ودوافع مختلفة كان الخوف في مقدمتها.
وكان يمكن معالجة الخلل الصارخ في التكوين العقائدي "الطارئ عليه" بصيغ أخرى تعتمد تطهيره من القيادات البعثية المهيمنة المتشبعة بإيديولوجية البعث الانقلابية ونزعاته العدوانية والاجرامية ضد العراقيين، وتقديم المجرمين منهم الى القضاء. الى جانب نشاطٍ فكري وسياسي وتعبئة جماهيرية لعزل البعث وتبشيعه وتجريده من اي ادعاءات قد تسمح لمن يواصل حمل رسالته المشبوهة من استرجاع بيئة تحركٍ جديد لهم بين المواطنين . لكن التناقض لا يكمن في اعتماد " الحل " بديلاً عن " التطهير " وانما في ما لحق ذلك من اجراءات مشوهة لاعادة تشكيل الجيش والقوات المسلحة والاجهزة الامنية والمخابراتية التي حُلّتْ هي الأخرى. واخطر الاجراءات التي اتخذتها الادارة المدنية للاحتلال تمثلت في اعتماد "نخبة" من كبار رجالات القصر الجمهوري ومن القيادات العليا في الجيش والاجهزة الامنية لتتولى هي، على عجل ودون اي تدابير احترازية من تسلل عناصر إرهابية او بعثية "مستمرة في موالاتها"، اعادة تشكيل وحدات الجيش والشرطة والاجهزة الأمنية.! اما الافراد فقد فُتحت الابواب امام كل الراغبين للانضمام اليها، مع اعطاء الافضلية للمنتسبين السابقين لقطاعاتها . وقد شهدت هذه التكوينات منذ اعادتها حملات " تطهير ذاتي" او من خلال اجراءات الفصل والاعتقال نتيجة انكشاف المتسللين من المجرمين، اللصوص او قطاع الطرق او المافيات ، ممن نشروا الذعر والجريمة المنظمة في المجتمع ، او المندسين من عناصر القاعدة وتوابعها ، بالاضافة الى البعثيين الموالين .
وفي تزامن مع قرار حل الجيش والقوات المسلحة بالصيغة المذكورة ، اقدم بريمر على قراره الغبي الآخر الخاص بـ"اجتثاث البعث". وأراد بهذا القرار "الإجرائي، القانوني" تصفية البعث "تنظيمياً وعزله سياسياً واجتماعياً، لكنه وهو يتخذ القرار، اصطفى مئات الكوادر البعثية المعروفة سواءً من العسكريين أم المدنيين للعمل في الوزارات والمؤسسات الحكومية، بل وكلفهم بمهام تأسيسية فيها، مشترطاً، كقاعدة، الموالاة والقبول بالتعاون مع الادارة الجديدة ، مستثنياً افرادها من اي مساءلة او مقاضاة. ولم يكن غريباً في ظل مثل هذا الاصطفاف ان يتسلل الآلاف من قادة وكوادر البعث إلى خارج العراق بموافقات رسمية من الإدارة الأميركية المدنية والعسكرية عبر نقاط الحدود الرسمية علناً وأمام انظار المواطنين الذين أصبحوا تحت طائلة الشبهة والملاحقة حسب قرار بريمر باجتثاث البعث، مع أنهم لم يكونوا فعليا من الموالين للنظام السابق، وانخراطهم في البعث شكليّ لم يكن الا من باب "التقّية" بمفهوميها في المذهبيين السني والشيعي !
وفي واقع الحال قدم قرار "الاجتثاث" الذي كان عليه ان يكون " اجتثاثاً للاستبداد " الذي نعايش شكلاً آخر من تجلياته في الحياة السياسية الراهنة، خدمة لا تقدر بثمن لفلول النظام السابق وحزبه. فالقرار بدلاً من فضح البعث كمنظومة اجرامية بما انجزته خلال فصول حكمها الفاشي، وبالتالي عزل ذلك الحزب وحصر المطلوبين من عناصره للعدالة ممن كانت لهم ادوار في السياسة والنهج الإجرامي او ممن اقترفوا جرائم مباشرة يطالها القانون.. بدلا من ذلك وضع القرار كل من انتمى الى حزب البعث تحت طائلة المساءلة او " العيب السياسي والاجتماعي " على الاقل ، مما شكل بيئة متعاطفة ضمنياً وخيمة لا مبالية لمئات الالاف ممن استقبلوا التغيير بالتعاطف رغبة بالخلاص من كابوس الويلات الاجتماعية والحياتية والخوف من المجهول الذي تنطوي عليه الدكتاتورية ونزواتها التي لا تستثني أحداً . ومن بين اخطر تداعيات قرار الاجتثاث، وقبل ذلك حل الجيش بالصيغة التي اعتمدت، شمول مناطق واسعة من البلاد معروفة بطبيعتها التكوينية المذهبية بالشبهة والاتهام بالولاء، وتحويلها إلى ملاذ آمنٍ للمتسللين من القاعدة والمتوارين من العناصر العسكرية والامنية والمخابرتية المطلوبة، ليس بمعزلٍ عن ارتكاباتٍ سياسية وعسكرية من قوات الاحتلال وإدارته الامنية في تلك المناطق ، منافية لعاداتها وتقاليدها وأعرافها الاجتماعية والعشائرية .
واذا أخذنا بنظر الاعتبار ان القرارين، الاجتثاث والحل، شهدت مراحل تطبيقهما، خصوصاً في السنوات التي تولى الحكومة فيهما السيد نوري المالكي " انتقائية " و"تمييزاً " جارحاً أخلاقياً وفضاً سياسياً، نستنتج بعضاً من أسباب ودواعي الغضب الذي يسود المناطق الغربية والمكون السني، إذ لم يعد خافياً على احد مهما كان ضعيف البصر او البصيرة ان من يحيط بالقائد العام للقوات المسلحة، سواء في دائرته الضيقة او على رأس الفرق العسكرية او في القيادات الأمنية والمخابرتية، هم ممن يشملهم الاجتثاث ، لكن شفيعهم "الموالاة" والاخلاص لتنفيذ اي قرار حتى وان تعارض مع الدستور، انصياعاً وطاعة لخوفٍ مزدوجٍ، الخوف من ضياع المناصب وامتيازاتها، والرعب من سيف " الملفات" وخباياها.
والسؤال الجارح للمتضررين من "الانتقائية" في تطبيق قرار الاجتثاث وما اقترن به من مواجهة الإرهاب بـ"قانون ٤ إرهاب"، هل ان الاحتجاج ضد هذا النهج والسياسات الاقصائية السائدة في سلوك رئيس الحكومة، يقتضي اعتماد شعاراتٍ ولافتاتٍ ومرجعياتٍ وطنية توحد كل العراقيين حول برنامج إصلاح للحكم، سواء بالتعديل الجذري ام التغيير، ام أن ذلك يمكن ان يجدي بالسماح لمن كانوا في اساس محنتنا المشتركة بالتسلل الى صفوفنا وتلويث شعاراتنا وأهدافنا العادلة.؟
ان مشروعية المطالب السياسية للإصلاح والتغيير والتعبير الجماهيري عنها في الأنبار والحركة الاحتجاجية التي يبدو انها في اتساع ، ينبغي ان تتعزز وتتعمق بالتأكيد على ما هو مشترك بين العراقيين بمختلف مكوناتهم ومشاربهم وانتماءاتهم. وما يجعل من هذه الحركة فضاءً وطنياً يتسع لهم دون استثناء، تجنيبها كل الشعارات المتطرفة، غير الوطنية ، الطائفية والمناطقية والفئوية المعزولة ، لكنها قبل ذلك لابد لها أن تتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً من البعث والارهاب، وتنأى بحركتها عن اي نزوع يوحي بالتعاطف او اللامبالاة إزاءها.
ان مطلب المساواة والعدالة والتنديد بالانتقائية في تنفيذ كل القرارات، وفي مقدمتها المساءلة والعدالة و ٤ إرهاب، بدلاً من المطالبة بإلغائهما، هو الذي سيوسع دائرة الحراك الوطني ويوجه ضربة لمن يقود البلاد الى متاهات الأزمات والانفراد والتسلط والمضي نحو الدكتاتورية. وهذه مسؤولية مباشرة تتحملها القيادات السياسية المؤثرة في حركة الاحتجاج الحالية.
ان البعث والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة، وعلى اهلنا في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكل حاضنات الاحتجاج والحراك السياسي إدراك ذلك والتصدي لمظاهرهما وتجفيف منابعهما معاً .
ودون ذلك .. الدكتاتورية قادمة ..!