الكثير من المكتبات العراقية حافظت على هويتها الوطنية دون الالتفات إلى ما يجري من صراعات وتخندقات طائفية وقومية ودينية، ورفضت رفوفها أن تكون حكرا لهذا الحزب أو لتلك الجهة، إيمانا من وعي أصحابها بان وجودها كوجود الأوكسجين لطالبها، فهي للجميع وليس لقومي
الكثير من المكتبات العراقية حافظت على هويتها الوطنية دون الالتفات إلى ما يجري من صراعات وتخندقات طائفية وقومية ودينية، ورفضت رفوفها أن تكون حكرا لهذا الحزب أو لتلك الجهة، إيمانا من وعي أصحابها بان وجودها كوجود الأوكسجين لطالبها، فهي للجميع وليس لقومية معينة او دين معين او طائفة او حزب، فما دخلنا يوما لأية مكتبة في شارع المتنبي وتفاجأنا بتخصصها بجهة معينة، قد تكون متخصصة بعلوم أو آداب أو فلسفة، وغيرها من الأجناس الإبداعية الأخرى، لكنه لم يكن قوميا أو عنصريا أو دينيا.
شارع المتنبي هو العاصمة المركزية للمكتبة والكتاب في العراق ، لذا اطلق عليه كما اطلق على صاحبه مالئ الدنيا بعقول رواده وشاغل الناس بكل ما هو جديد من الروافد الإبداعية.
من المتنبي إلى المعارف
أول مكتبة وطأت أرضه هي المكتبة العصرية التي أسسها المرحوم الكتبي محمود حلمي عام 1914 وهي ما تزال إلى يومنا هذا تقاوم من اجل البقاء، وبعد 15 عاما و بمسافة تبعد 390 كم عنها سميت مكتبة أخرى بنفس الاسم في شارع المعارف بمدينة العمارة مركز محافظة ميسان، بالاتفاق بين المرحومين محمود حلمي وعبد الرحيم الرحماني صاحب المكتبة العصرية وذلك عام 1929، علما ان المكتبة - تجمع اغلب المصادر - أن تاريخها يعود الى قبل العام المذكور وكانت تسمى بالرحمانية نسبة لصاحبها عبد الرحيم والد الشاعر داود الرحماني.
دخلت سوق العمارة الكبير "المسكف" من جهة شارع دجلة واتجهت صوب ذلك العبق المعرفي والتاريخي الذي كان من أهم الروافد الثقافية والفكرية لأبناء المدينة، تلك السمراء التي درت على العراق برموز وقامات ثرية بإبداعاتها المتنوعة، وحين تسأل أي رمز منهم: من له الفضل بخزينك ومنجزك الإبداعي، لا يمكن أبدا أن ينكر فضل تلك الرفوف وما حملت من كنوز وأمهات الكتب.
المرحوم عبد الرحيم الرحماني
ما أن تجاوزت نهاية السوق وعبرت شارع المعارف، حتى وجدت نفسي امام معشوقة الوعي وملهمة العقل واقفة كصرح شامخ ما يزال يحمل روح التجديد، وأحلام الفتى الطامح إلى الخلود.
قطعة نقشت في أعلى حائط مدخلها كتب عليها المكتبة العصرية لصاحبها حيدر حسين اللامي تأسست عام 1929،ها أنا أقف أمام ابو سعد الذي اصبح نصبا متحركا مع مكتبته كإحدى دلالات المدينة.
يقول أبو سعد: المكتبة اصبحت ملكا لذاكرة المدينة ومن المعالم المهمة فيها، تأسست المدينة في 5/10/1929 مؤسسها أستاذي وملهمي المرحوم الحاج عبد الرحيم الرحماني، وكانت المكتبة في ذلك الوقت المنفذ الوحيد لتوزيع الصحف كما يقول ابو سعد، وكذلك الموزع الوحيد للكتب المدرسية لأنه في حينها لم يكن التعليم مجانيا، وكان في ذلك الوقت العدد محدودا بالنسبة للطلاب والمدارس الموجودة في المدينة، حيث كانت ثانوية واحدة في مدينة العمارة يأتيها الطلاب من الاقضية والنواحي إضافة الى طلبة المركز كما يقول اللامي، بعد ذلك كثرت المدارس وخاصة في شارع الذي توجد فيه المكتبة وأطلق عليه المعارف لوجود كلية المعارف فيه ولكثرة المدارس فيه، منها مدرسة الإمام الصادق الابتدائية والمركزية والفنون الجميلة وإعدادية العمارة، ومع أن الاسم تم تحويله إلى شارع التربية لكن الناس إلى يومنا تسميه بالاسم القديم، ويضيف اللامي بأنه تسلم المكتبة من الرحماني بعد أن تقدم به العمر، وبدأنا في العمل ضمن اتفاقية بيني وبين المرحوم، لكن بعد ان طالبتنا الدولة بضرورة وجود إجازة رسمية، تم بيننا عقد بيع وشراء وعلى ضوئه أصبحت المكتبة باسمي، وهي المكتبة الوحيدة التي لم تغلق أبدا وبقيت مستمرة إلى يومنا هذا.
الجواهري والقراءة الخلدونية
وعن عدد المكتبات التي كانت معاصرة لمكتبته يقول أبو سعد لم تكن غير مكتبتنا موجودة، ولكن بعد ذلك فتحت العديد من المكتبات أشهرها مكتبة شاكر الهاشمي والغد، لكن بعضها لم تستطع التواصل لعدة أسباب، وعن أهم رواد المكتبة يقول حسين حسب ما ورد لي في ذلك الوقت لكوني كنت اعمل بائع صحف عند المرحوم، فضلا عن عملي في مطبعته الملحقة بالمكتبة، ومنهم مثلا المرحوم حقي الشيلي، الذي كان يزور العمارة مكلفا بدورات تفتيشية، فيأتي ويجلس في المكتبة ويقتني بعض الكتب والروايات التي لم يتسن له الحصول عليها من بغداد، وكذلك المرحوم الجواهري الذي كلفني في احد الأيام بإيصال رسالة لمدير مدرستي الابتدائية حلمي السامرائي يطلب فيها منه أن يرسل له نسخة من القراءة الخلدونية، والغرض من ذلك كما فهمت بعد ذلك من المرحوم عبد الرحيم بان الجواهري يريد أن يعلم الفلاحين القراءة والكتابة في قضاء علي الغربي. الذي ابعد إليه في خمسينيات القرن الماضي .
من أهم رواد المكتبة
ويؤكد اللامي أن الجواهري كان أسبوعيا يأتي الى المكتبة ويجلس مع الحاج عبد الرحيم ويتزود منه بالكتب والصحف والمجلات، مضيفا بان جميع طلاب أدباء وشعراء وفناني العمارة يعدون أنفسهم طلابا تخرجوا من هذه المكتبة، ومثال ذلك الدكتور مالك المطلبي، وأشقاؤه عبد الرزاق وعبد الوهاب وعبد الحسين، وكذلك عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله عندما كان طالبا في إعدادية العمارة، لكنه حين انتقل إلى بغداد أصبح مجيئه للمكتبة في زياراته الخاصة للمدينة فقط، وكانت المكتبة مقرا للشعراء من امثال عبد الرزاق عبد الواحد، لميعة عباس عمارة التي كانت دائمة التردد على المكتبة ووالدها ايضا من رواد المكتبة، والشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر، والروائي محمد شاكر السبع، الفنان الدكتور فاضل خليل الذي أعده احد أبناء المكتبة لانه تربى فيها وقد سبقه والده خليل رشيد، ، المؤرخ والشاعر عبد الكريم الندواني، والفنان التشكيلي شوكت الربيعي، وجمعة اللامي، وفاضل السوداني وسمير خليل والشعراء عيسى الياسري وسليم السامرائي وكاظم غيلان والقاص عبد عون الروضان، وزار المكتبة العديد من الشخصيات الأدبية المهمة كالشاعر معروف الرصافي، ومن البصرة القاصان محمود عبد الوهاب وكذلك القاص محمد خضير، وكذلك الفنان حسن حسني، والفنانة انعام الربيعي وحتى نختصر، أؤكد لك - والكلام لأبي سعد - أن جميع الرموز والمبدعين الذين شقوا طريقهم للشهرة هم من زبائن المكتبة العصرية وكذلك ابناء العمارة من الجيل الجديد.
توزيع الكتب مجاناً على أدباء العمارة
بالإضافة لذلك لها العديد من الإصدارات (موجز عشائر العمارة)، وكذلك كتاب (عشائر العمارة) لجبار الجوبيراوي، (وسلاما أيتها الأهوار)، وكذلك تمت طبع كتاب زينب الكبرى للقاضي جعفر النقدي، ولدينا مشروع الآن سنطلقه من على منبر المدى أن كل صاحب كتاب مطبوع من أهل العمارة تقوم المكتبة بتصريف كتابه مجانا من دون استقطاع أي مبلغ من سعر البيع.
وبشان الاقضية والنواحي وهل للمكتبة فروع فيها قال حسين ايام كانت الدار الوطنية موجودة، كانت جميع الاقضية والنواحي تتسلم حصتها من الكتب والاصدارات من مكتبتنا، لكن بعد الغاء الدار تم تشكيل الشركة الوطنية وانا احد مؤسسيها وما تزال لي اسهم فيها، اما الان فليس لدينا فروع بالاقضية والنواحي بعد ان عزف اصحاب تلك المكاتب عن شراء الجريدة والمجلة والسبب كما يبين اللامي هو لقلة ربحية الجريدة وصعوبة تصريفها وتعدد انواعها، ففي السابق كانت الصحف محددة بعدد لا يتجاوز اصابع اليد يتوزع عليها القراء، أما اليوم فهناك عشرات الصحف وهذا ما يجعل تصريفها صعبا جدا، إضافة الى انتشار وسائل الإعلام الالكترونية كلها جعلت من وكلائنا يبحثون عن بضاعة مربحة، وعن الحلول أو البدائل لاستمرارية الحياة في المكتبة يقول حسين إن هناك روافد عدة منها الكتاب الديني وكذلك الملزمات المدرسية التي أتت بالنعمة على أصحاب المكتبات.
طلّق شهادة الماجستير وتزوّج المكتبة
الإعلامي سعد حيدر ابن صاحب المكتبة يقول عمري 6 سنوات وبدأت رحلة مركب العشق في بحر المكتبة المعرفي، سمير، وميكي وقصص محمد عطية الإبراشي، لذا انه رغم انه حصل على شهادة ماجستير في القانون، لكنه فضّل المكتبة على أي عمل آخر، وكنت إلى قبل فترة قصيرة أقوم بأرشفة العدد الأول من أية مجلة أو جريدة، لكن كثرة الصحف والمجلات الآن جعلت من ذلك العمل شبه مستحيل، ويبيّن اللامي أن ما حبب لي المكتبة هو أنها تعلمك كيف تتعامل مع المتناقضات، فأنت تتعامل مع المتدين، مع العلماني، مع الشيوعي ومع البعثي، وهنا أتذكر وصفا منقولا عن المرحوم عبد الرحيم الرحماني للمكتبة يقول فيه إنها مثل الصيدلية فهي تبيع المسهل والقابض، أقراص ارتفاع الضغط وانخفاضه، المضعف والفيتامين، وهكذا، فلا توجد مكتبة تبيع كتباً محددة بذاتها يجب أن تكون عامة لتكون لعموم المجتمع. ومع ذلك كثرة العناوين اوجدت التخصص بما هو نافع للمجتمع فلدينا في بغداد مكتبات قانونية وأخرى طبية، وهندسية، هناك التخصص ممكن يحصل، لكن في المحافظات من الصعب جدا أن يحصل ذلك، لان الإقبال على الكتاب لم يكن كما في السابق، لذا علينا استيراد الكتب بجميع عناوينها، ورفدها بالقرطاسية لتستطيع المواكبة.
وعن تأسيس المكتبة يقول اللامي إن المكتبة تأسست وبحسب وثيقة تاريخية قبل عام 1929، وكانت تسمى بالرحمانية ونتيجة اتفاق بين المرحوم الحاج عبد الرحيم الرحماني تحولت من الرحمانية إلى العصرية.
"طريق الشعب" وسط جريدة الثورة
عبد الحسين رشدي الذي يصفه صاحب المكتبة بأنه صديق عمري ومعاوني في المكتبة منذ أربعين عاما يقول إن صاحب المكتبة يقوم بمنح هدية لكل عروسين من أبناء الأصدقاء في المدينة كهدية زفاف تتكون من المصحف، ودليل الطبخ ومجلة بردة لفصال الملابس النسائية.
ومن الطرائف يقول رشدي: جاء احد الشباب يطلب كتاب (حياتي بعد الخمسين) للكاتب سلامة موسى فرد عليه أبو سعد بعد ان عرف نفاد الكتاب "لن أبيعك الكتاب إلا بعد بلوغك الخمسين سنة"، ومفارقة أخرى انه جاء للمكتبة احد سكنة الأرياف وطلب كتاب ميشيل عفلق (نقطة البداية) فقال له أبو سعد "الثورة صار لها 25 سنة وبعدك بنقطة البداية"، واحدهم جاء لأبي سعد وقال له "أريد المنهاج" فأجابه متسائلا "منهاج الصالحين"، فقال له لا "منهاج الحزب".
ويضيف البائع المخضرم أن للمكتبة موقفا مشرفا مع زبائنها من الحزب الشيوعي العراقي، وذلك انه أيام محاربة البعثيين للشيوعيين عينت دائرة الأمن ضابطا يراقب المكتبة لمعرفة من هم الذين يشترون جريدة "طريق الشعب" فيقول كنا نعرف الذين يشترون طريق الشعب فقمنا بإيهام الضابط الأمني وذلك بجعلها وسط جريدة الثورة وإعطائها لقراء طريق الشعب.
بدايات الوعي الجمعي
الشاعر والإعلامي نصير الشيخ يقول في بداية الستينيات كان والدي المرحوم عبد الكريم الشيخ الذي هو من رواد المكتبة يصطحبني معه، وكانت صحيفته المفضلة هي جريدة الجمهورية، لأنه كان يرفض أن يكون حزبيا وباعتبار "طريق الشعب" و"الثورة" تمثلان حزبين معروفين كان يفضل الجمهورية باعتبارها مستقلة نوعا ما في بدايتها، وكذلك من المواظبين على زيارة المكتبة شقيقي المرحوم بشير الشيخ. وشقيقي الأكاديمي في الفن التشكيلي الشهيد امير الشيخ، مضيفا ان المكتبة تمثل لي بدايات الوعي، بل أنها شكلت وعيا جمعيا لعموم مثقفي المدينة ومركز استقطاب ليس عند حاملي الهم الثقافي بل دلالة مميزة عند أبناء المدينة حتى عند أبناء ريف ميسان.
المرأة الميسانية والكتاب
الإعلامي جلال عبد الحسن عمل في الدار الوطنية في سبعينيات القرن الماضي قال: إن تأثير المكتبة علي تأثير كبير وبالتالي حتى انعكس على العائلة من خلال الكتاب أو أي منشور إعلامي يدخل البيت، ويؤكد عبد الحسن أن الجميل في المكتبة أنها تحتوي على موسوعات وأمهات الكتب النادرة وخاصة الروايات التي إميل الى قراءتها ومتابعتها. والمكتبة اصبحت تشكل بالنسبة لي ملجأ ثقافيا دائميا، لذا تجدني أقوم بزيارتها يوميا، ليس فقط من اجل الحصول على جريدة المدى التي اقتنيها يوميا، ولكن علاقة ربطني بهذا الشاخص الحضاري المهم في تاريخ المدينة.
ونحن داخل المدينة لفت نظري مشهد المرأة داخل المكتبة، وهي تبحث عما تريد بعيون سومرية مهابة عن مبتغاها، الكتاب الذي بيدها حالني إلى الخبز الدفيء في تنور شاعرنا حسب الشيخ جعفر حين يقول:
إني استضفت فراشة... وكتبت، فوق جناحها القزحي، ما كتبت يداي
مذ نؤت شيخا بالمتون إلى صباي... قل أي شيء يا ربيع
الطرق موحلة إلى قلبي... وفي الطرق الصبايا....
... يسرعن بالخبز الدفيء، وبالصقيع
والى حكاية أخرى من حكايات (هذا وطني)
جميع التعليقات 1
عمار عبدالواحد الروضان
السلام عليكم بارك الله بجهودكم على جمع الأسماء الفاضلة والمشهورة ولا ننسى بالذكر الاستاذ عبد الواحد حميد الروضان أستاذ اللغة الانكليزية في إعدادية العمارة في ستينيات القرن الماضي الذي ذهب الى بغداد وكان علما من أعلام التدريس في اختصاصه ورمزا يدعو للمفخرة