قضيتُ أربعة أعوام في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم الأدب الإنجليزي وكان لي زميل عزيز أصبحنا صديقين وكان اسمه حلمي ولا أذكر بقية اسمه، ولم أعرف أن حلمي مسيحي إلا مصادفة في السنة الأخيرة حين سألته هل ستصوم في رمضان. حدث ذلك في ستينات القرن الماضي قبل
قضيتُ أربعة أعوام في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم الأدب الإنجليزي وكان لي زميل عزيز أصبحنا صديقين وكان اسمه حلمي ولا أذكر بقية اسمه، ولم أعرف أن حلمي مسيحي إلا مصادفة في السنة الأخيرة حين سألته هل ستصوم في رمضان.
حدث ذلك في ستينات القرن الماضي قبل هزيمة 1967 التي ظهرت بعدها السيدة العذراء في كنيسة الزيتون، وكان هذا الظهور الغريب كأنه يفتح صفحة جديدة تماما في علاقات المسلمين والمسيحيين حين جرى إغراق المنطقة في الدين بعد الهزيمة، وكان هذا الإغراق آلية معتمدة لتحويل الصراع الطبقي في البلاد إلى صراع ديني، وإعطاء شرعية لإسرائيل باعتبارها دولة دينية تحولت عقيدتها إلى قومية عنصرية عدوانية احتلالية تعمل على اقتلاع شعب من أرضه لتحل محله فئات وجماعات من جنسيات وقوميات شتى لا يجمعها سوى الدين.
لم تكن مظاهر التفرقة بين المسلمين والمسيحيين منتشرة في ذلك الحين، لا الصلبان ظاهرة، ولا المسلمات محجبات، رغم أن الكنائس والجوامع كانت عامرة.
وكان عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومي «الإعلام» قد قام بعد موجة التأميم الواسعة سنة 1961 بإنشاء إذاعة خاصة للقرآن الكريم أخذت تبث خطابا دينيا معتدلا لكن ملحا لساعات طويلة، رغم أن القرآن كان يذاع بوفرة في البرامج الدينية العادية، وعلى ما يبدو فإن هذا التوجه كان جزءا من ستراتيجية التحول الكبير الذي بدأ بصراع الرأسمالية المصرية ضد حركة التأميم الكبرى وسياسة التخطيط الاقتصادي الناصرية، وقد أفصحت هذه الستراتيجية عن نفسها بعد رحيل «عبد الناصر» وبلغت ذروة من ذراها في عام 1974 بإصدار سلسلة من القوانين والقرارات التي حملت عنوانا كبيرا هو الانفتاح الاقتصادي، وفي ظل هذا الانفتاح تدهورت الصناعة والزراعة والثقافة، وأخذت بلدان الخليج الغنية بالنفط والمحافظة سياسيا والرجعية دينيا حيث نشطت الوهابية بتزمتها ونظرتها الأحادية الضيقة وأخذت تلعب أدوارا متزايدة في السياسة المصرية في ظل رئاسة «السادات» الذي أدخل الدين في السياسة، وسمي نفسه الرئيس المؤمن، وطرح شعار دولة العلم والإيمان، وأخذ يتهم معارضيه بأنهم ملحدون وكفرة مدشنا هذه الموجة الظلامية التي اجتاحت البلاد باسم الدين، وظلت تتفاقم إلى أن وصلت بنا لما نحن فيه الآن.
لم تكن مصادفة أن أول وقائع الفتنة الطائفية في ما بعد الستينات قد بدأت في منطقة الخانكة سنة 1972، بعد صدور دستور 1971 بعام واحد، وكان الرئيس «السادات» قد أدخل مادة الشريعة في الدستور التي لم تكن موجودة من قبل وأصبحت هذه المادة منذ ذلك الحين السند القوي لكل صور التطرف وصولا لقتل رئيس الجمهورية بادعاء مخالفته للشريعة، وتواكب إدخالها مع السياسة الساداتية التي تعاونت على نطاق واسع مع الجماعات الجهادية الإسلامية واستخدامها - أي الجماعات لكي تواجه قوى اليسار من الشيوعيين والناصريين خاصة في الجامعات وفي الحركة العمالية والنقابات، وكان السادات المزهو بانتصار الجيش المصري المحدود على العدو الإسرائيلي قد أخذ يعلن ملامح سياساته الجديدة المعادية للمشروع التحرري الوطني الناصري، فأعلن أن 99% من أوراق حل القضية الفلسطينية في يد الولايات المتحدة الأمريكية، كما اختار اقتصاد السوق الحر بلا ضوابط، وانفلت الانقسام الطبقي لينقض على الشعار والممارسات الناصرية التي قالت بتذويب الفوارق بين الطبقات، كما تصاعد النضال الشعبي ضد النتائج المريرة للانفتاح الذي امتلأت البلاد على إثره بالأغذية الفاسدة والمضاربين الفاسدين، واستوردت البلاد مع هذه البضائع كل نفايات الثقافة التجارية الاستهلاكية، وتكاتفت الرجعية الدينية لإنعاش كل ما هو ميت وغير عقلاني في ثقافتنا مسايرة لمبدأ إغراق المنطقة في الدين وهي دعوة «هنري كيسنجر» وزير الخارجية الجمهوري الأمريكي والمفكر الإمبريالي الصهيوني ذائع الصيت.
ومع تحكم الرأسمالية الطفيلية في مفاصل الاقتصاد، وسيطرة سياسات التبعية والفساد على الحكم في مصر تكررت وقائع الصراع الطائفي في البلاد بصورة منظمة، ومنتظمة، وشعر المسيحيون المصريون بالخوف والعزلة، وازدادت وتيرة هجرتهم إلى خارج البلاد، وأصبح الانقسام الديني حقيقة كلما اشتد عود الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المختلفة، وحلت الديانة محل المواطنة في تعريف الهوية وسوف تتجلى براعة القوى الديمقراطية ليبرالية واشتراكية الآن في بلورتها منظومة متكاملة لمشروع وطني تحرري جديد يرفض سياسات الهوية ويبلور مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي تضع الصراع على الأرض الحقيقية له اجتماعيا ووطنيا بعد انحراف طويل، وفي هذا الصراع الجديد ينشط المسيحيون المصريون كمواطنين خاصة بعد ثورة 25 يناير التي لم ترفع شعارا دينيا واحدا.
ولحلمي صديق الدراسة الذي لا أعرف إلى أين مضت به الحياة ولكل صديقاتي وأصدقائي من المسيحيات والمسيحيين أقول كل عام وأنتم ومصر كلها بخير، وسوف نبقى معا على الدرب تظللنا المحبة، وستبقي المحنة تظللنا وتحدو ركبا إلى أن تنقشع هذه السحابة السوداء لنبني الوطن الذي لا نعيش فيه وإنما يعيش فينا.