TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عقوبة اليأس

عقوبة اليأس

نشر في: 9 يناير, 2013: 08:00 م

صديقي العزيز عبد الخالق كيطان

قرأت مقالك الحزين (العراق ميؤوس منه) في موقع (ساحات التحرير)، وتأثرت به حقا. ولعل التأثر بلغ قراءه من أقراننا الذين قد يصح اعتبارهم فصيلة العلمانيين الإنسانيين في العراق. وهؤلاء ليسوا قلة بين الناس، وإن بدوا كذلك لأنهم عدموا وسائل التعبير والتأثير. فمنهم من يجد نفسه ضمن هذه الفصيلة عن وعي، وهم ربما في كل مكان قليلون. ومنهم من يندرج فيها عن فطرة، وهم كثيرون وإن عميت عنهم عيون الصحافة المسحورة بفصائل الصخب والعنف.

نعم أنا معك في "الصورة السوداوية" التي رسمتها للوضع العراقي. وقد أستطيع أن أضيف اليها أشياء تزيد من عتمتها. لكنني لست معك في أمور أذكر منها خاصة الاستنتاج الذي خلصت اليه واتخذته عنوانا لمقالك :"العراق ميؤوس منه".

أحسب أن هناك أمرين يجدر بالمثقفين تجنبهما. أولهما صناعة اليأس. والآخر ملامة الشعب، أي شعب. ولا شك انك تعرف من هم رجال هذه الصناعة. أنت بالتأكيد لا تمتُ اليهم بصلة. مقالك اليائس ذاته يبعث على الأمل. فهو يقدم معرفة عن الواقع. والمعرفة تنوير. والتنوير تحرير. والتحرير هدف التاريخ الأول وفاعلية المبدع الأبدية. وكل المبدعين، بمن فيهم اليائسون، عبارة عن رسائل أمل ولو رغما عنهم. ان المعري يصدمك بمعرفة النفس ولكنه كم يضيئك ويحررك ويسمو بك ويحييك بهذه المعرفة:

ثوبي محتاجٌ الى غاسلٍ   وليت قلبي مثله في النقاء

أما رجال صناعة اليأس الحقيقيون فهم الأسوأ على الإطلاق. مخلوقات من نوع صدام. هل تذكر ذلك اليأس الوطني الشامل في أعوام الحصار؟ ذلك الوباء الأصفر الذي انتشر وعمَّ وبدا أن لا برء منه؟ هل تذكر كم كان ذلك اليأس الثقيل مهيمنا وقويا؟

فجأة أصبح ذلك كله من الماضي. تحول الى رماد وانبعث أمل عجيب. وكان أملا عجيبا بالفعل. 

ثم حدث ما حدث. يبدو ان التاريخ أعجب من كل الآمال وكل الخيبات. ففي لحظة يبدو وكأنه يركض الى الأمام بعد طول سكون. ثم تتكشف الركضة عن اتجاه معاكس تماما. وسيعزى التراجع الذي تنكَّر بزي التقدم الى نقص في عدتك للمستقبل. وهذا حق. لكن هل رأيت في يوم من ايام التاريخ ان عدة المستقبل كانت بيد الشعب "المكرود"؟

لا أظن. ان مصاعب الحياة لا تترك مجالا لأي كان كي يملك ويقود. المصاعب تأكل الشعب. والناجون من أن يكونوا طعاما للمصاعب هم القلة من القادة. وهؤلاء القلة من القادة بالصدفة أو التآمر أو الحظ أو الجدارة هم مُلاك المصير، أصحاب العدة التي تركض بك الى الوراء أو الى الأمام. فهم الملومون لأنهم هم المسؤولون.

في 12 عاما تسلم فيصل الأول العراق عدما وسلمه دولة تسير على سكة السلامة ضمن دول عصبة الأمم. وفي 35 عاما تسلم البعث العراق عمارة وسلمه خرابة. الأول اشتغل على استظهار أنبل ما في الناس. والثاني استخرج أشر ما في الناس. والناس على دين ملوكها. انهم كذلك ليس على كيفهم وانما غصبا عليهم بألف طريقة وطريقة. ان الحاكم يوزع صفاته على الناس لأنه يحكم الناس، وليس لديهم ما ينجيهم منه. كم ازدادت أعداد البعثيين عندما كان الحكم بعثيا؟ وكم ارتفعت نسبة الطائفيين اليوم بعدما صار الحكم طائفيا؟

هذه هي حقيقة دور الحاكم، او السلطة، في شعوب عصور ما قبل حقوق الانسان. ونحن في عدادها. ولعل هذا هو ما يفرض على المثقف فيها دورا استثنائيا. فبمقدار اتخاذه دورا ابتعاديا ونقديا من السلطات، نابعا من فهم حركة التاريخ فهما عقلانيا، يستطيع أن يصنع بيئة فكرية وسلوكية تفرض نفسها على حاكم اليوم أو غدا. وهذا الدور يجعل المثقف مسؤولا وبالتالي ملوما، شأن رجل الدين وكل مقتدر على التأثير بسبب عقله أو نفوذه او جيبه، مع تذكر الأثر الحاسم دائما للحاكم، وهو صاحب الشأن.

أما الشعب فإنه آخر من يلام، وآخر من يستحق عقوبة اليأس، وهي الأقسى.

إنني معك صديقي العزيز عبد الخالق في أن الوضع خانق، وان الأمور تكون شديدة المرارة عندما ينقلب الأمل انقلابا شديدا الى خيبة. ولكن ليس لدينا مفر من حكم الأمل والعمل من أجل أن تسير الأمور بشكل مختلف طالما استطاع الواحد منا أن يشم وردة، أو يقاوم كراهية، أو يشعر بمحبة، أو يُأسر بابتسامة، أو يطير بأغنية، أو يرتفع بفكرة، أو يضحك لطرفة، أو يدمع لفجيعة، أو يستجلي عتمة، أو يصبر على شدة، أو ينتشي بإضاءة، أو يسكن أمنية، أو يحتفي بصداقة، أو يناضل بنزاهة، أو يُلقي أو يتلقى كلمة طيبة. 

خالص مودتي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 5

  1. رمزي أدور ناري

    رائع جداً.. وأعجبني أكثر هذه المتوالية الحسابية .. من يشم وردة،، أو يقاوم كراهية، أو يشعر بمحبة، أو يُأسر بابتسامة، أو يطير بأغنية، أو يرتفع بفكرة، أو يضحك لطرفة، أو يدمع لفجيعة، أو يستجلي عتمة، أو يصبر على شدة، أو ينتشي بإضاءة، أو يسكن أمنية، أو يحتفي بص

  2. الناصر دريد

    نعم انا معك يااستاذنا في ان قبيلة العلمانية يجب ان تناضل من اجل التغيير ، ولكن كيف وهم غير متفقين على صيغة العمل او جدواه ؟ كيف وهم غير قادرين على ان يحشدوا عشرة انفار لتغيير الوضع ، وان فعلوا فحشدهم كاريكاتوريا بالقياس للملايين التي تزحف للنجف كل جمعة او

  3. رمزي أدور ناري

    رائع جداً.. وأعجبني أكثر هذه المتوالية الحسابية .. من يشم وردة،، أو يقاوم كراهية، أو يشعر بمحبة، أو يُأسر بابتسامة، أو يطير بأغنية، أو يرتفع بفكرة، أو يضحك لطرفة، أو يدمع لفجيعة، أو يستجلي عتمة، أو يصبر على شدة، أو ينتشي بإضاءة، أو يسكن أمنية، أو يحتفي بص

  4. الناصر دريد

    نعم انا معك يااستاذنا في ان قبيلة العلمانية يجب ان تناضل من اجل التغيير ، ولكن كيف وهم غير متفقين على صيغة العمل او جدواه ؟ كيف وهم غير قادرين على ان يحشدوا عشرة انفار لتغيير الوضع ، وان فعلوا فحشدهم كاريكاتوريا بالقياس للملايين التي تزحف للنجف كل جمعة او

  5. د جنان قاسم محي الدين الخياط

    الاخ المحترم رمزي ادور ناري اعجبني تعليقك ارجو التواصل صديق الاعداديه في البصره الحبيبه الدكتور جنان قاسم الخياطemail : drjananqa@hotmail.com

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram