ليس لافتا أن يكون النحيب متصلا بوقائع العراق ومساراته، لكن اللافت هو تأصيل النحيب فنيا وثقافيا، وتحويله مدونات إبداعية، لا ترتهن إلى الواقع الفج في تفاصيله ويومياته، ولكنها أيضا لا تنفصل عنه أو تتذاكى عليه في استعراضات لغوية غالبا ما صارت لازمة في ال
ليس لافتا أن يكون النحيب متصلا بوقائع العراق ومساراته، لكن اللافت هو تأصيل النحيب فنيا وثقافيا، وتحويله مدونات إبداعية، لا ترتهن إلى الواقع الفج في تفاصيله ويومياته، ولكنها أيضا لا تنفصل عنه أو تتذاكى عليه في استعراضات لغوية غالبا ما صارت لازمة في الشعرية العراقية على امتداد العقود الثلاثة الماضية، أي ان تكون هناك مدونات ونصوص لا تتخلى عن شروطها الفنية وهي تتعاطى مع راهن بدل مبتذل لفرط دمويته المجانية.
في المجموعة الشعرية الرابعة (واحد وثمانون) "بدا العنوان شيفرة مغلقة ولا اتصال نصيا يفكك رمزه" الصادرة حديثا عن "دار التنوير" البيروتية، للشاعر العراقي الذي أقام نحو عقد في استراليا وعاد إلى بغداد قبل نحو 3 أعوام ثم غادرها مجددا يائسا، حزينا، ومنكسرا في سلسلة متصلة من مدونات النحيب ذاتها التي كان بدأها في مجموعته الأولى "نازحون" التي كتبها قبل ان يغادر بلاده للمرة الاولى وفازت حينها بجائزة عبد الوهاب البياتي في دورته الاولى 1998 وصدرت في العام ذاته عن "دار الجندي" الدمشقية، هناك مقاربة شعرية للنحيب، بما يعلي حياة في مشهد منذور بالكامل للهدم.
وفي الاشتباك مع راهن اللحظة، أي لحظة واقعية، أدبيا وشعريا على وجه الخصوص، ثمة الفخ المفتوح الذي يحيل النصوص الى قراءة محايثة للواقع، لا تزيده غنى في التفاصيل، مثلما تتراجع فيها روح الشعر وكشوفاته. وفي نصوص صاحب ديوان "صعاليك بغداد"، الواردة ضمن مجموعته الجديدة، اتصال دائم مع الواقع يقع أحيانا في ذلك الفخ، لكن يبتعد عنه أكثر في نصوص شكلت الجسد الأكبر للمجموعة التي وقعت في قسمين: "على السرير اشهى" ومعظم نصوصه تتصل بتدوين حسي لراهن بغداد الذي اكتشفه الشاعر بغباره وانفجاراته وقتلاه وخيبته ولذائذه السرية، و" مزامير متأخرة" الذي ضم نصوصاً متوزعة زمانيا ومكانيا ما بين العمارة مدينة الشاعر الأولى في جنوب البلاد، واديلايد وسدني الاستراليتين اللتين أقام ما بينهما.
النحيب بإحالاته الشخصية والعامة، يظهر ضمن وحدة فنية، فهو لا ينفك يعمد النصوص أكانت مكتوبة في منتصف تسعينيات القرن الماضي في مدينة الشاعر الجنوبية أم في أواخر العقد الماضي في اديلايد الاسترالية. لكن هذا وان بدا امتيازا، يظهر عجزا عن الاتصال بالأمكنة والثقافات والعوالم والحيوات الجديدة التي وجد نفسه فيها، ولجأ إليها بنشوة الهارب من "جحيم" بلاده إلى "نعيم" عالم حر. لا حضور للمكان الجديد إلا ضمن تساؤل نادب: ما الذي افعله هنا؟ لكنه ما إن عاد إلى مركز النحيب في تجلياته المكانية ووقائعه نجد الندب والنحيب ذاتهما: "وجدتني الأحمق ذاته/ الذي لا يجيد دورا أكثر من الإصغاء للنشيج".
انه العائد الى خرابه عله يفحص حنينه ويطفئ نار أشواقه، لكنه حيال سعة الخراب والأسئلة المتشظية الناتجة عنه: "أين الشبوي الذي تركته قبل سنوات / من اغتال سدرة في الوزيرية/ ومن احرق مسرح الرشيد"، وهنا يبدو الفخ متاحا، أي الاتصال مع الواقع عبر تدوين يومياته في مهمة غير شعرية ناهيك عن عاديتها المثيرة للملل" فاعثر بعد لأي على امرأة خرجت من المفخخات/ وجرائم العنف الطائفي والقتل على الهوية/ بجسد ناصع ورغبة في الحضور". غير أن الشاعر يحسن صنعا حين يقصي نصوصه عن هذا الفخ، ويذهب الى مهمته الشخصية الإنسانية العذبة والمعذبة فهو "مشغول بالقصص المليئة بالنحيب"، فيلمع الشعر في نصوص عدة، وتتوهج الفكرة بمدخل روحي وشخصي " كيف يسطع في قلبك كمان وحيد/ وبضعة منشدين"، ويبدو النحيب وقد انفصل عن راهنيته ليتصل بالبحث الإنساني الدائب عن فضاء ما من قيم الخير والعدالة والجمال "أيها الإنسان/ يا ابن الدموع والشفقة/ ها أنت من جديد ترسم ظلا/ ولا يسقط فيه غير الموتى"، بل انه في لحظة تبدو محلية جدا لإحالاتها إلى الوقائع العراقية (الحروب)، يبدد بثقة تلك الإحالات إلى سؤال حر منفتح على فضاء أنساني واسع " ومن قرن إلى آخر/ تموت النباتات البرية تحت السرفات/ ولا يبقى بعدها غير ذكرى".
في نحيب "على السرير أشهى" هناك اتجاهان احدهما معنوي جراء ما تهدم من وطن، وآخر مادي اسمه لذائذ سرية مع نساء في مدينة تتهدم، ولكنه يستعيد تلك اللذائذ في سياق متصل بالهدم، فيكون مفارقة أحيانا: نساء متدفقات شهوة وحياة في مدينة تموت، و اتصالا مع المحو الذي يعنيه الموت اليومي، إذ يصبحن على الأغلب ذكرى عابرة بعد حضور شهواني عابر. مثلما في نصوص القسم ذاته اتصالا شعريا مع المدينة التي تتحجر مشاعرها، إذ تصبح ذكورية للغاية " على السرير تصبح الأمنيات ملاءات غير نظيفة او شراشف تبحث عن يد حانية.... ومن أين تأتي هذه اليد وكل شيء هنا ذكوري وحاد"؟
وحيال هذه الانهيارات في كل مكان انتقل اليه الشاعر وظل العراق في انهياراته المتواصلة لصيقا به وتحول أنينا شخصيا يبدو كيطان في مهمة البحث عن حكمة شخصية ما تبدو تعويضا عن كل تلك الانهيارات "أحوج ما أكون إلى الآخرة/ اريد أن أتيه فيها/ فانسى القصص الرذيلة الى الأبد"، ولكن تلك الحكمة تبدو هي الاخرى متصلة بالنحيب والندب اللذين صارت الحياة إيقاعا ثابتا منهما "اخرج الى حانة منتصف الليل/ اسقط على رأسي في صندوق القمامة الذي كان مهيئا لي/ الصندوق الذي هو حشد أوغاد".
الصندوق هنا ليس مصيرا شخصيا، هو وبمرارة يبرع الشاعر في تقصي رموزها وحكاياتها، الوطن ذاته، تودع فيها مخلفات الحرب والتشرد والخوف والرعب والرذائل التي يتقصى صاحب ديوان "الانتظار في ماريون" تاريخا متصلا من العذاب والنحيب والندب والوحشية في تاريخ بلادهن فيكون نصه المتفرد "أعيدوا إلينا طغاتنا" بيانا شعريا نادرا في بيان نحيب بلاد الرافدين منذ "المتجبر حمورابي" مرورا بإحالات إلى كربلاء والإمام الحسين "كلما كاتبنا رسولا لنجدتنا/ وجدناه قتيلا على أبواب المدينة" وصولا إلى راهن متفجر تخذل فيه كل المعاني الجميلة ويبدو فيه الشاعر يائسا كليا" أعيدوا إلينا طغاتنا/ فلقد تعبنا من الانتظار/ ولسنا بقادرين على اجتراح حياة جديدة".
* شاعر وناقد مقيم في عمّان
جميع التعليقات 2
علي سباهي
لماذا شعراء التفعيل يرون انفسهم شعراء وهم يكتبون نثرا الشعر العراقي عمودي ولد وهناك شاعران فقط من غير العمودي السياب والملائكة.. وانت يا عجام مابالك وازمتك على العراقيين في الداخل هل تعاني من مشكلة كبيرة ؟
علي سباهي
لماذا شعراء التفعيل يرون انفسهم شعراء وهم يكتبون نثرا الشعر العراقي عمودي ولد وهناك شاعران فقط من غير العمودي السياب والملائكة.. وانت يا عجام مابالك وازمتك على العراقيين في الداخل هل تعاني من مشكلة كبيرة ؟