أحد أهم الأسباب التي تجعل بغداد مكانا غير لائق للعيش هو غياب نظام مرور سلس فيها. ويعد المتضررون من هذا الواقع بالملايين. كل سكان العاصمة متضررون منه، وفي مقدمتهم القوى العاملة والطلبة، أي كل المضطرين الى الخروج يوميا من بيوتهم والعودة اليها.
أما سواق سيارات الأجرة فلا شك في أنهم الفئة الأشد تضررا. فهم ينفقون يوم عملهم جميعا في الشوارع المكتظة بالإختناقات المرورية. وحين تفكر بأحوالهم وهم يواجهون هذا المأزق في كل لحظة تعجب من جلدهم وقوة أعصابهم. أما بقية الشرائح فإنها تتعذب أيضا، ولكن بدرجات أقل. وهذه الشرائح هي الأقل عددا، مثل المتقاعدين وربات البيوت.
ولكن حتى هؤلاء المرابطين في بيوتهم ليسوا بمنجى عن العذاب اليومي. فلربات البيوت أزواج وأبناء وبنات، يخرجون ويعودون بأسوأ حال. وهذا لا يساعد على توفير أجواء نفسية مريحة لهن، لأن ذويهن العائدين من مرارة الأوقات الطويلة في ازدحامات السير يأتونهن مرهقين محتقنين. والمُرهَق مُرهِق. انهن في الحالات الطبيعية ينتظرن من ذويهن العودة بمباهج الخارج الواسع الى البيت الضيق. فاذا بهم يعودون من ضيق الى ضيق.
هكذا يعم عذاب ازدحامات السير سكان بغداد كافة. والعذاب شيء لا يمكن اعتياده ولا التآلف معه. ذلك انه عذاب. تأخذه معك الى العمل أو الدراسة، فتكون في أسوأ حالات قدرتك على الخدمة اذا كنت عاملا أو موظفا، وفي أسوأ حالات قدرتك على الاستيعاب اذا كنت طالبا. وستنوء بالقهر نفسه في طريق العودة. وكل من الطريقين، الذهاب والإياب، فيه زيادة ساعة بالقليل على المعدل الطبيعي لزمن الطريق، فوق شوفة العسكر وهي تذكرةٌ موجعة بأن الحرب لم تغرب عن هذه البلاد.
ويكاد المعدل الطبيعي لزمن الطرق أن يكون قد نُسي، نظرا لاستمرار أزمة المرور في بغداد عشر سنوات متواصلة. أي منذ التغيير عام 2003. صحيح ان السيارات كانت أقل في بداية التغيير. لكن المرور السلس كان قد انتهى منذ بدأ التغيير وباشر"الهمر" الأميركي خنق الطرق. ولعلكم تذكرون كيف كان "الهمر" يتخذ لنفسه فجأة موقعا في الطريق، ويحرن الوقت الذي يلائمه، فينقطع الطريق وتبقى السيارات في الانتظار الى أن يحل الفرج.
ولم نكد نخلص من تلك السيرة فاذا وارثها ألعن. فقد حلت السيطرات أو نقاط التفتيش العسكرية محل الهمرات. ومع عسكرة بغداد المكثفة بهذه السيطرات اشتدت أزمة السير وتفاقمت. وهي ككل أزمات البلاد تبدو بلا حل. بل انها قد لا تبدو أزمة بالنسبة الى الحكومة، ذلك ان قيادة هذه الحكومة تعيش بعيدا عن الشوارع، تعيش هناك.. في المنطقة الخضراء. والبعيد عن العين بعيد عن القلب. وهذه حقيقة. فلكي تشعر بمشكلة عليك أن تراها لتحس بها ثم تفهمها لتبدأ محاولة حلها، وذلك اذا تمتعت أصلا بملَكَة حل لا صنع المشاكل.
هذا من جهة الحكومة. ماذا عنا نحن الملتاعين بهذه الأزمة؟ ألا توجد نقابات أو جمعيات يمكن لها أن تبادر بأعمال ما للضغط على الحكومة من أجل حلها؟ يخيل الي ان اضرابا شاملا ليوم واحد في بغداد قد يصنع شيئا. لكن أي نقابة أو جمعية من جمعيات المجتمع المدني غير القابضة مؤهلة للدعوة الى مثل هذا الاضراب العام وصنع الاستجابة له؟
والحال فإنه اذا لم يكن لدينا من يمثلنا في السياسة ولا من يمثلنا في المجتمع المدني، فلنسلِّم أمرنا الى الله، وهو كريم يجيب دعوة الداعي اذا دعا، ونكثر من الأدعية لحل أزمة المرور، وهذه في اليد ولا تكلف شيئا. فإذا ما استجاب الباري عز وجل، وهو على كل شيء قدير، فإن ما سينتهي ليس أزمة المرور فحسب، بل الحكم العسكري نفسه الذي يقف وراء هذه الأزمة.
عذاب بغداد
[post-views]
نشر في: 11 يناير, 2013: 08:00 م