القسم الأخير يذكره بوالده المقاول الثري وعائلته المعروفة ... يخبرهم انه ابن أصول وعائلته معروفة في الثراء ... لكن لا احد يهتم، لا احد يتذكر... حتى صوته لم يعد قادرا على الصراخ! دخل السجن مع المجرمين والقتلة وأرباب السوابق ... نام على الأرض بعد أن كا
القسم الأخير
يذكره بوالده المقاول الثري وعائلته المعروفة ... يخبرهم انه ابن أصول وعائلته معروفة في الثراء ... لكن لا احد يهتم، لا احد يتذكر... حتى صوته لم يعد قادرا على الصراخ! دخل السجن مع المجرمين والقتلة وأرباب السوابق ... نام على الأرض بعد أن كان يرقد ويسترخي وينام فوق ريش النعام .... شرب ماء الحنفيات بعد أن كان لا يشرب سوى المياه المعدنية ... حلق شعره نمرة صفر بعد أن كان يدخل اكبر صالونات الحلاقة كالطاووس ... ارتدى بدلة السجن الموحدة الخشنة ... وهو الذي كان نجم حفلات القمار والبوكر بأناقته ووسامته ... بدأ يهرش في جسده على اثر البق والحرمز الملتصق بالفرش والدواشك مثل زملاء القاعة وهو الذي كان يستحم بأنواع الغسول والكريمات ويتردد على حمامات البخار التركي في اكبر الفنادق في العالم ... لم يسأل عنه أي مخلوق في السجن ... حتى زوجته زارته مرة وانقطعت أخبارها عنه ... انتبه ذات ليلة من ليالي القاعة الكئيبة التي يعيش فيها إلى انه نقل ملكية قصره إلى زوجته السكرتيرة ... في لحظة ضعف كانت تنتابه دائما أمام قميص نومها الأحمر الشفاف ... حكى قصته ذات يوم لأحد زملاء القاعة فإذا بالمتهم يعلق على قصته قائلا له: "تريد الصراحة ... أنا لو مثلك ... انتحر واخلص!" لكن (ع) لم ينتحر ... الحسنة الوحيدة في حياته انه خشي من ربه لو مات كافرا ... قرر وهو في السجن أن يلجأ إلى الله ... ربما أفاق متأخرا ... لكن رحمة الله تمتد إلى آخر تائب في فوج النادمين... مهما وصل بعد الميعاد ... بكى (ع) حينما أراد ان يصلي فاكتشف انه لا يعرف اداء الصلاة ولا يعرف سوى سورة الفاتحة .. لجأ إلى سجين كبير في السن تعاطف معه وعلمه الصلاة .. وبدأ يوهم نفسه بان عذرا كبيرا منعه عنه زوجته حتى جاءه خطابها ...الوحيد! انتهى شريط الذكريات ... وصمم (ع) أن يستجمع قوته ويكمل قراءة الرسالة ... لقد عرفت يا (ع) أن التمييز أيد أحكام المحكمة التي حكمت عليك بالسجن ... وسوف تكمل مدة الست سنوات في سجنك وأنا وضعي حساس ... ومركزي لا يحتمل ... ولا يرضيك أن اخسر مكانتي الاجتماعية حيث سوف أرشح نفسي للانتخابات البرلمانية القادمة ... الحمد لله أننا لم ننجب لهذا رفعت عليك دعوى تفريق أمام المحكمة سوف يصلك التبليغ وارجوا أن تقدر موقفي" ... وحصلت السكرتيرة الجميلة على حكم الطلاق فعلا ... طلقة بائنة ... وجاءت بزوج جديد في قصر أم (ع) وزوجها الثري الكبير ! ونام الزوج الجديد وعضو البرلمان على فراش (ع) وتزينت له السكرتيرة بقميص نومها الأحمر ... ولمع في يدها وحول عنقها تخم الجواهر والألماس الذي أخذته من (ع) . لم أكن اعرف (ع) ولكنه أوقف عندي في مركز الشرطة الذي كنت أديره بتهمة تحرير الصكوك وقد عملت طيلة مكوثه في التوقيف على الاستماع الى أحاديثه وقدرت وضعه الاجتماعي والأدبي ومنذ أيام وصلتني رسالة من السجن ... أدهشتني سطورها ... كانت مفاجأة من العيار الثقيل ... تسع صفحات كاملة يروي فيها (ع) حكايته ويطلب مني أن انتظره على باب السجن صباح يوم الأربعاء القادم لأنه أكمل مدة السجن وسوف يخرج للحياة ولن يكون احد في انتظاره... انتظرته في بوابة السجن الأمامية ... خرج وهو يلتفت يسارا ويمينا ... شاحب الوجه يرسم ابتسامة زائفة فوق ملامح صفراء ذابلة ... تعرفت عليه بصعوبة .. عرفني مباشرة وتوجه بالسلام والقبلات... وفي سيارتي سألته: لماذا اختارني أنا بالذات لمهمة استقباله ولم نلتق سابقا سوى أيام هو في الموقف وأنا مدير الشرطة ولم نكن على معرفة سابقة قبل ذلك! وأجابني بينما كانت عيناه تنطلقان من نافذة السيارة وتتفحصان شوارع بغداد في دهشة قال لي: أنا آسف... أزعجتك ... لم أتعرف عليك إلا من خلال وجودي في المركز عندكم... كان احد حراس الموقف عندكم يزورني باستمرار ويحكي عنك ورغبتك في أن تزورني في السجن من باب الوفاء والصداقة التي بدأت اشعر بها وأنا معكم في المركز ... لكني طلبت منه أن يمنع هذه الزيارة بأي شكل من الأشكال ... لا تزعل ولا تغضب ... من صراحتي ... كانت زيارة الشرطي وسائقي الخاص تكفيني... كانا الوحيدين اللذين يسألان عني في السراء والضراء ... السائق علمت انه مات منذ فترة وجيزة وبقي الشرطي الوفي يزورني في كل زيارة ... كان تفكيري وقراري أن ينتظرني هو خارج السجن ... لكن اخترتك في النهاية لأني تأثرت بك كثيرا ... وأثرت بي وبتفكيري أكثر.
سألته الى اين سنتجه بالسيارة ؟ وفوجئت به يهمس لي بان انتظر لحظات حتى يستجمع الطريق في ذاكرته .. وفجأة وصلنا ساحة الطلائع في الكرخ فصاح ادخل يمين ... إلى نهاية الشارع ... احترمت آلامه النفسية الواضحة واتجهت كما قال ... وبينما نحن في الشارع الضيق راح (ع) يعلق على حكايته كواعظ وزاهد وراهب لم تعد للدنيا قيمة في نظره... بل كان يصب غضبه على فتنة النساء وذكاء الشيطان حينما يتنكر في قميص نوم احمر شفاف ! مرة أخرى قطع حديثه وصاح ... ادخل يسار وبعدين يمين ... وظللت امضي في السير في الشارع الذي يصفه لي (ع) حتى وجدت أننا وصلنا الى منطقة المقابر ... طلب مني أن أتوقف ... ثم همس لي وهو يشير بيده نحو احد الأبواب المغلقة ... هذه مقبرة عائلتي ! وعلى باب المقبرة الصغير ... مرت لحظات رهيبة... فتح (ع) باب غرفة المقبرة وتوجه نحو قبر والدته ! ارتمى فوق القبر ... كأن أمه فتحت له ذراعيها ... كأنه طفل عاد بعد غياب إلى أمه التي تنتظره ... انهمرت دموعه وكأن دموع أمه هي التي تملأ وجهه ! راح يتمتم بكلمات ... كان يشهق ... قبلاته فوق القبر مسحت كل الأتربة عن فوقه ! انسحبت في هدوء إلى الخلف ... دخلت السيارة وجلست استمع الى الاخبار ... مرت اللحظات ثقيلة .. سكون وصمت ورهبة وبين الحين والآخر يتسلل صوت أنين (ع) وهمساته وكأنه يدير حوارا مع أمه ... ربما كانت تؤنبه ... وكان يعتذر لها ... وربما كان يطلب منها العفو والسماح ... وكانت تخبره أنها سامحته من قبل ان يدخل الى المقبرة ... أخرجته بصعوبة .. عاد الى السيارة ... وفي ساحة كراج العلاوي طلب ان ينزل ... سألته .. أين سيذهب وطلبت منه ان يأخذ مبلغا كان معي في جيبي ، لكنه رفض بشدة ... وأصر على موقفه واقسم برحمة أمه انه لن يأخذ فلسا واحدا ... سألته مرة أخرى الى اين سيذهب ؟ نظر لي وتنهد ثم قال في ثقة : لا تقلق عليّ ... في السابق كان معي كل ما في الدنيا وما كو واحد نفعني ... والآن ما عندي شي املكه ... سوى شخص واحد هو ربي الذي يخيفني ... أجبته هو مالك الملك ونعم بالله يا (ع) ولكن إلى اين تذهب ... تعال معي أستريح أياما ... أجابني .. ارض الله واسعة ! وابتعدت خطواته عن السيارة وهو يلوح لي بيده... وظللت أتابعه بنظراتي ... وفجأة انتبهت ولقد اختفي في ازدحام المارة!