TOP

جريدة المدى > اقتصاد > لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي

لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي

نشر في: 14 يناير, 2013: 08:00 م

(القسم الثالث)وباختصار كل الرطانة توجد هنا. بحيث أن شريعتي يلتهم كل فضلات الماركسية في الوقت الذي يدّعي مناهضتها. إن إسلام شريعتي المؤدلج _ مهما تكن دوافعه الدينية والعاطفية يشف عن مقولات اجتماعية اقتصادية مسطحة...إنه وهو يخفض البعد المقدس للإسلام إل

(القسم الثالث)
وباختصار كل الرطانة توجد هنا. بحيث أن شريعتي يلتهم كل فضلات الماركسية في الوقت الذي يدّعي مناهضتها. إن إسلام شريعتي المؤدلج _ مهما تكن دوافعه الدينية والعاطفية يشف عن مقولات اجتماعية اقتصادية مسطحة...إنه وهو يخفض البعد المقدس للإسلام إلى مستوى التاريخ، يعلمنه وينهكه من الدفق المتواصل للصيرورة التاريخية" (1).
حذر شريعتي من المثقف الانهزامي المنقطع عن جذوره، المقتلع من عالمه، وذهب إلى أن المثقف المستنير، هو من يعمل على تغيير الواقع، وتوعية المجتمع بذاته الحضارية وميراثه. وشبه المستنيرين بالأنبياء، باعتبار طبيعة المهمة العظمى والمسؤولية الاستثنائية المنوطة بهم،  التي تتركز حول إيقاظ شعور الناس بذاتهم. وطفق يدين المثقفين المسلمين المعجبين بنماذج التنمية الغربية، ويصفهم بالاغتراب عن الذات، وخسران الهوية، وزعم أن مابعد القومية، والنزعة الإنسانية العالمية، أكاذيب كبرى، ينشد من خلالها الغرب محو الهوية الثقافية للشرق.
 تأثر شريعتي بمناخات المقاومة والعودة إلى الذات، وسط المثقفين والطلاب المبتعثين في باريس من العالم الثالث، وأعجب بخطاب "المعذبين في الأرض" ، لفرانتز فانون، وسعى لمحاكاته في كتابه "العودة إلى الذات". لكنه تجاوز خطاب فانون الذي تمحور حول الخصوصيات العرقية والسياقات التاريخية والثقافية للعالم الثالث، وأكد على تكريس الجذور الإسلامية. يكتب شريعتي: (حينما نتحدث عن العودة لجذورنا، نتحدث في الواقع عن العودة إلى جذورنا الثقافية... إن العودة لا تعني إعادة اكتشاف إيران ما قبل الإسلام، وإنما تعني العودة إلى جذورنا الإسلامية)(2) . وتتكرر في آثار شريعتي مفهومات الأصالة، والهوية الحضارية، والذاتية، حتى أنه خصص لــ "العودة إلى الذات" أحد أهم كتبه، وعالجها في موارد مختلفة من أعماله. وطغت في هذه المرحلة فكرة الذاتية والسياقات الاجتماعية والثقافية والدينية للاجتماع الإيراني في خطاباته وآثاره.
حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة
يمكن القول إن مشروع التجديد للدكتور حسن حنفي هو أوسع محاولة، ولعلها آخر محاولة ينهض بها مفكر معاصر، لإعادة بناء العلوم الإسلامية، وليس من المبالغة أن يصنف صاحبها بأنه يمثل الحلقة الأخيرة لنمط من العلماء الموسوعيين في تأريخنا، ممن ألفوا في المعقول والمنقول، وانبسطت كتاباتهم على مختلف حقول المعارف المتداولة في عصورهم. إنه من أغزر المفكرين العرب المعاصرين إنتاجا. إنه يكتب في التراث والحداثة، والإسلام والعصر، والمعقول والمنقول، والماضي والحاضر، والفكر الغربي، والاجتماع والاقتصاد والسياسة. لكنه يكرر نفسه على الدوام، ولا تخلو كتاباته المتواصلة من مواقف متضادة، وآراء متهافتة، ومعالجات مبتذلة للقضية ذاتها، بنحو تبدو آراؤه يكذب بعضها بعضا.
 يعطي حنفي لمشروعه عنوانا عاما، هو" التراث والتجديد"ويقسمه إلى أقسام ثلاثة: الأول يحدد" موقفنا من التراث القديم"، ويشمل ثمانية أجزاء، كل جزء منها يختص بإعادة بناء أحد العلوم الموروثة، فالجزء الأول مثلا الذي هو محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، يعطيه عنوانا بديلا لعلم الكلام أو أصول الدين أو العقائد أو الفقه الأكبر، حسب تسمياته الموروثة، فيعبر عنه "من العقيدة إلى الثورة" ويلخص ما يهدف إليه من ذلك بقوله:" هو العلم الذي يمكن بواسطته سد النقص النظري في واقعنا المعاصر، والذي يمكنه أن يمدنا بأيديولوجية عصرية، تشتمل على لاهوت الثورة، ولاهوت الأرض، ولاهوت التحرر، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم "(3) . ومنذ ثلاثة عقود يتواصل صدور أجزاء هذا القسم، فقد اطلعت على صدور خمسة أجزاء من القسم الأول، منها " من العقيدة إلى الثورة " في خمسة مجلدات، و" من النقل إلى العقل " في تسعة أجزاء... الخ.  
والقسم الثاني من مشروع التراث والتجديد يحدد"موقفنا من التراث الغربي"، ويشمل خمسة أجزاء، كل جزء يختص بفترة للحضارة  الغربية. وقد أصدر  حنفي " مقدمة في علم الاستغراب " قبل عقدين تقريبا تمهيدا وإيجازا لـ"موقفنا من التراث الغربي". أما القسم الثالث فيصوغ" نظرية التفسير" ويشمل ثلاثة أجزاء، طبقا لوضع الوحي في التاريخ. وصدر قبل أربع سنوات في مجلدين، تناول فيهما "ظاهريات التفسير"و"تفسير الظاهريات". وهما إعادة تدوين وترجمة لأطروحته للدكتوراه في السوربون بالفرنسية، قبل خمسة وأربعين عاما.
 ما يهمنا الحديث عنه هو منجزه في الجزء الأول من القسم الأول"من العقيدة إلى الثورة"، الذي يتمحور حول " لاهوت التحرير " والذي يسرد فيه رؤيته لإعادة بناء علم الكلام.  ولا أظن أن حديثي عن مشروع الصديق الدكتور حسن حنفي يضيف شيئا، لأنه معروف لدى المهتمين. غير أني سأشير إلى علاقتي بحنفي: متى بدأت، كيف تطورت، ومآلاتها في الاجتماع الشيعي، والتفكير الديني في إيران. عساني أُؤشر على راهن العلاقة الثقافية بين جناحي العالم الإسلامي، وطبيعة الحضور الديناميكي الحيوي لمشروع الدكتور حنفي ورؤاه. في عام 1982 التقيت للمرة الأولى بحنفي على صفحات جريدة الوطن الكويتية، في سلسلة مقالات نشرها عن "الأصولية الإسلامية" بمناسبة محاكمة المتهمين باغتيال الرئيس المصري أنور السادات. لفت نظري تدفق السرد في كتابته، وحساسية المفردة اللغوية المستعملة في عباراته، ووضوح الأفكار وتوهجها، وحماسة الجمل وشعلتها، كنت أتفاعل مع نصه، وكأني أحضر دراما حية، بل أحيانا أكتوي بلهيب شعاراته، أعاد لي حالة الاحتراق التي أوقعتني فيها مطالعتي كتاب " معالم في الطريق" قبل هذا التاريخ بعشر سنوات، عندما اضطربت وأجهشت بالبكاء عدة مرات، شوقا وفرقا على "جيل قرآني فريد" الذي صاغته مخيلة المرحوم سيد قطب، كنت مع معالم سيد قطب كمن يبتلع جمرا. لكن مع حسن حنفي يتسرب الخطاب للعقل أيضا، ولا يقتصر على المشاعر والأحاسيس والعواطف، مثلما تفعل نصوص قطب، التي هي بمثابة أناشيد للفداء والاستشهاد. أخرجني الدكتور حنفي من حالة اليقين إلى التساؤل، وحررني من سجن "معالم في الطريق"، لكني دخلت معه سجنا جديدا من نوع مختلف، هو سجن "الأيديولوجيا"، كما أدركت في ما بعد، حينما درست" فصوص الحكم" لمحيي الدين بن عربي، و"مثنوي معنوي" لمولانا جلال الدين الرومي، وغيرهما من النصوص الرؤيوية الفواحة بالمعنى في ميراثنا. لكني لن أنسى أثر حسن حنفي في إيقاظي من الاستغراق في أحلام رومانسية، حين فتح لي نافذة على العصر، وشدني بقوة إلى الحاضر، فحررني من لوعة الاشتياق للماضي، والمكوث في كهوفه، واستعارة مفاهيم السلف وأحكامهم ومعاييرهم، في كل ما يواجهني في حياتي، ذلك أن نصوص حنفي نسيج ينهل من منابع متنوعة، تحيل إلى الموروث بحقوله الواسعة، والفكر المعاصر بمذاهبه وتياراته واتجاهاته المختلفة. لا تفتقر إلى مراجعة جريئة للماضي والحاضر، مسكونة بالواقع ورهاناته. لا تكف عن مساءلة الماضي، ونقد التراث، والتوغل في مساراته العميقة، وربط الفكر بحياة الناس ومتطلباتهم وشجونهم وهمومهم، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية. كتاباته هاجسها تغيير الواقع، لا تتعطل في تفسيره،كما هي الآثار الغارقة في الجدل والتفكير المجرد. تنحاز للحرية، والعدالة، وتعلن عن أنها صوت المهمشين والمحرومين، وكل أُولئك المعذبين في الأرض الذين يتجرعون العلقم. يرى في الدين رسالة نهوض وانعتاق ومقاومة، يستدعى ميراث الثوار في تاريخ الإسلام ويمجده، ويرى فيه النهج المضيء في الإسلام.
طفقت أفتش عن حسن حنفي وألاحق كتاباته في الدوريات، وما صدر له من مؤلفات وترجمات وتحقيقات، كنت أقرأ باستمتاع بالغ ما يقع تحت يدي من آثاره، وأعرف به بين زملائي في الحوزة العلمية، أتفاعل معه وجدانيا، أتوهج عاطفيا، وربما أسكر عقليا، مثلما سكرت من قبل بالتهام أدبيات الإسلام الأصولي. بدأت أبحث عن أسلوب للتواصل معه، وقتئذ لم يكن هناك إنترنيت، ولا شبكة عنكبوتية، تتيح لنا العثور على معظم أصدقائنا ومن نود أن نتواصل معهم، كما هو فيس بوك اليوم. اكتشفت أنه يعمل أستاذا في قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، حاولت أن أجرب حظي في إرسال رسالة من "قم"، حيث كنت مقيما هناك، ومشغولا في الحوزة العلمية، مشردا من بلدي   على عنوان جامعة  القاهرة، ونسيت الرسالة بعد عدة أشهر، غير أني فوجئت بوصول رزمة صغيرة عليها طوابع مصر، لفت نظري أن المرسل هو الدكتور حسن حنفي، ففتحتها لحظة تسلمها، وجدتها تحتوي: العدد الأول من مجلة اليسار الإسلامي، وكتابي الإمام الخميني" الحكومة الإسلامية، والجهاد الأكبر" كل واحد منهما يشتمل على مقدمة موسعة لحنفي، بطبعة مصرية. انصرفت لقراءة اليسار الإسلامي، كل شيء فيها مختلف، اسم المجلة، تبدى لي بمثابة تركيب بين متضادين "يسار، وإسلام" كلمة التحرير الشاملة تحت عنوان" ماذا يعني اليسار الإسلامي " وما اشتملت عليه من إشارات واستدعاء لعقلانية المعتزلة، وعدل المعتزلة والشيعة، وثورة الحسين، وغيرها من الثورات في تاريخ الإسلام، ومعارضة الخوارج، وصولا إلى معارضة الصحابي أبي ذر، تجلت هذه العناصر كمصفوفة بؤر مضيئة، وحبات لؤلؤ منتظمة في إطار ألماسي، بينما لم يسلط الضوء في تلك المقدمة المسهبة على ما واكب الفتوحات من  مظالم، وما خلفته من تنام لتجارة الرقيق، وشيوع الجواري والإماء في قصور الخلفاء،  وما اجتاح الحياة الإسلامية من صراعات وحروب أهلية، ونكبات، قتل فيها الثوار، وشيوع ذهنية التحريم لدى فقهاء القصور السلطانية، وفتاواهم في  ذبح المفكرين الأحرار كغيلان الدمشقي، والحلاج، وشيخ الإشراق السهروردي، وما تعرض له المعتزلة من اضطهاد وملاحقة، وبالتالي تحريم التفكير الاعتزالي حسب وثيقة" الاعتقاد القادري" الشهيرة.   

1-شايغان، داريوش. ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة. ترجمة وتقديم: د. محمد الرحموني. مراجعة: د. مروان الدايه. بيروت: المؤسسة العربية للتحديث الفكري ودار الساقي، ط1، 2004، ص272-273.
2-شريعتي، د. علي. مصدر سابق. ج11: ص135.
3-حنفي، د. حسن. التراث والتجديد. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط5، 2002، ص 177.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

العراق يقلص صادراته النفطية واستهلاكه المحلي
اقتصاد

العراق يقلص صادراته النفطية واستهلاكه المحلي

بغداد/ المدى أعلنت وزارة النفط، اليوم الجمعة، تخفيض وتقليص صادرات العراق من النفط الخام وتقليل استهلاكه المحلي. وذكرت الوزارة في بيان، تلقته (المدى)،: "تماشياً مع التزام جمهورية العراق بقرارات منظمة أوبك والدول المتحالفة ضمن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram