قد لا تكون هناك علاقة جوهرية بين الحيتان وحل البرلمان القابع في ضمير سلطان العراق، لكنني مصر على الكتابة عن الامرين معا هذا اليوم، فمآل كل منهما الى "تعثر السلطان" وارتباكه.
سفري الاخير الى البصرة كان واحدا من امتع الجولات في ربوعها، وذلك بفضل رفقة جميلة للصديق حسام الغزالي البغدادي الذي امضى طفولته في البصرة، وهو يعود اليها رجل اعمال خبيرا مبشرا بمفهوم حديث للتنمية، وقد وافق ان يتجول معي وصولا الى اقصى المحطات، فسمعنا اغاني عن سيحان والمحمرة عند ضفة شط العرب حيث تنتصب في الجهة الاخرى رافعات ميناء خورامشهر وجسرها المعلق الذي لا تملك أمها البصرة واحدا مثله.
وكانت جولة مميزة برفقة المؤرخ الشاب والمتعمق نبراس الكاظمي الذي ينحاز لمجد البصرة اكثر من ابنائها. وأكثر ما افرحني هناك هو اللقاء بأصدقاء الفيسبوك البصريين حيث كنا لاول مرة وجها الى وجه قرب سفن خشبية قديمة بعضها مصنوع في ميناء بورتسموث البريطاني قبل ١٠٠ سنة حسب نقوش محفورة قرب الصاري. جرأتهم ومتابعاتهم الذكية وحداثة افكارهم، كانت املا كبيرا لمستقبل البصرة والعراق وشبابه.
لكن البصرة مدينة متناقضات من طراز رفيع، فهي تعرض لك زهوها وما تلبث حتى تكشف لك عن جروحها الغائرة. تفتح "دوش" الحمام لتتخلص من متاعب السفر، فينزل على جسدك ماء البحر المالح وانت في منزل وسط المدينة. لم تكن تجربتي الاولى مع هذا، لكنني رحت افكر بمصدر هذا الماء البحري المتوغل في شط العرب وفي حمام والدي. البصرة التي تصدر معظم نفط العراق هي الميناء الوحيد الذي لا يمتلك محطة تحلية مياه البحر. وسأظل اردد هذا دون كلل او ملل، لانني "تحت الدوش" كنت احاول ان اسأل نفسي: قطرات البحر النازلة فوق رأسي داخل هذا الحمام، اين كانت قبل ساعتين او يومين، في اي بحر او خليج؟ بالتأكيد جاءت هذه الملوحة السائلة من بحر تسبح فيه الحيتان والكائنات المعروفة والمجهولة. اننا نتشارك ماء واحدا للاستحمام مع ضواري البحر، بسبب سياسات فاسدة ينتهجها "ضواري البر" وساسته وسلاطينه.
وبدل ان يفسر لنا السلاطين فشلهم او ان يعتذروا لنا عن جهلهم، فإنهم يصرون على ان يتحولوا ابطالا لحروب وهمية ومفتعلة، كي ننسى مظالم الفقراء من البصرة والناصرية حتى الرمادي والموصل. ولان الحرب لا بد منها كي يفوز سلاطين الفشل بأصوات جمهور يتعرض للظلم والتضليل في الوقت نفسه، فإن السلطان يفكر بحل البرلمان بعد ان اخفق في اخضاعه.
كان يتخيل انه سيسيطر على البرلمان باختراع قائمة بيضاء او حمراء، وبفتاوى مجلس القضاء، وبمذكرات قضاة التحقيق، والتهديد بإجراءات "غير مسبوقة". لكن السلطان اصيب بالذهول حين رأى تنسيقا عاليا بين الكرد والصدر والعراقية ونواب مستقلين، وتأييد خفي من المجلس الاعلى، مدعوم بمقالات هادرة لعادل عبد المهدي ومواقف متوازنة وحكيمة من النجف.
السلطان المذهول ادرك انه لا خيار سوى ان يستجيب لضغوط العقلاء وينسحب ليسحب التوتر، بيد انه يعرف انه لو فعلها فلن يحلم بعودة اخرى الى المنصب.. اما الخيار الثاني فهو "احراق الرايخ" على طريقة هتلر الذي اشعل النار في البرلمان وأعلن الاحكام العرفية والحرب على كل التاريخ، وصنع نموذجا راح يثير شهية المستبدين في العالم الثالث وخاصة امريكا اللاتينية والشرق الاوسط.
ان ما حصل خلال اليومين الماضيين من اتصالات بشأن تكليف "صاحب الفخامة" السيد خضير الخزاعي، بفرمان سلطاني لحل البرلمان، يعكس ان المالكي ينوي امرا اكبر من الانتحار السياسي. ان روحه مضطربة اشد الاضطراب، وخصومه نجحوا في رفع درجة الهستيريا الداخلية لديه، وقد بان ذلك على تقاسيم وجهه في آخر ظهورين غاضبين له على الشاشة.
لكن المالكي منح خصومه هدية كبيرة، وبات بين ايديهم ملف دراماتيكي يحوي مبررات خلعه بل والحجر عليه لاسباب تتعلق بالاختلال العاطفي. ان السياسي حين يحاول الانقلاب على الشرعية على هذا النحو، يتعرض في دول العالم المتقدم الى عقوبات، اقلها منعه من خوض الانتخابات حتى اشعار آخر والسعي لمحاولة اعادة تأهيله نفسيا هو وفريقه السياسي والامني، قبل السماح له ثانية بالترشح امام الجمهور المظلوم والمسكين وادارة مصير بلد بتعقيدات العراق.
يا آباء العملية السياسية وابناءها، لقد نجحتم في جعل السلطان يكشف عن نوايا عشرة اعوام مقبلة، فتصرفوا قبل فوات الاوان، لان كل تضحية تقدمونها اليوم ستظل اقل من مصائب مستقبل يتحكم به السلطان هذا.
يا انصار دولة القانون، لا تقولوا لي ان المالكي يكشف عن استبداد شرقي عادي كامن في نفوس علاوي والصدر وبارزاني، وان علينا ان نكون منصفين في النقد كي نوزع اعتراضاتنا عليهم بالتساوي، ذلك ان علاوي سلم السلطة دون مشاكل في ٢٠٠٥. ثم تنازل عنها دون مشاكل ايضا في ٢٠١٠. وبارزاني والصدر اطفأوا نيران كل الفتن التي اشعلتها قرارات المالكي التي تنقصها الحكمة. ان في كل السياسة شر ولا شك. لكن شر الاضطراب النفسي وفق هذا العيار امر فريد ونادر، يحسن بنا الاعتراف به قبل فوات الاوان.