أول أغنية سمعتها في التظاهرات السورية كانت "جنو جنو البعثية". حين سمعتها وشاهدت الرقصة الجماعية للمتظاهرين التي رافقتها، أيقنت أن الطاغية سيسقط قريبا. كنت ألاحظ وجه الأسد أيام اتساع ظاهرة الأغاني فأجده محتقنا ومختنقا أكثر مما أراه اليوم، بعد أن خفت صوت الأغاني ليحل محله صوت الرصاص ورائحة الدم ودخان الحرائق.
كنت قبلها أتابع سحنة مبارك وكيف انقلبت إلى صفراء شاحبة حين حوّل المتظاهرون في ميدان التحرير شعار "ارحل .. ارحل" إلى أغنية:
كلنا إيد وحدة .. طلبنا حاجة وحدة
ارحل .. ارحل .. ارحل
وحتى عندما حدثت واقعة الجمل السيئة الصيت قاوم المصريون قنابل المولتوف والرصاص الحي بالأغاني. وحين اتهمهم أزلام النظام بأنهم عملاء وجواسيس غنى المتظاهرون والمتظاهرات:
ركنا الميكروباص ووقفنا في التحرير
وقلنا مش ماشيين إلا بعد التغيير
بيقولوا علينا عملاء بيقولوا علينا جواسيس
الميكروباص مش رايح لا دقي ولا رمسيس
وفي العراق، يوم انطلقت أول تظاهرة ربيعية في ساحة التحرير في 25 شباط في العام 2011، تغير لون وجه المالكي وارتعدت فرائص مقربيه أكثر مما ترتعد اليوم، رغم أن التظاهرات الجديدة أكبر حجما وعدة من الأولى. لماذا؟ لأن المتظاهرين كانوا يغنون وليس بينهم بكّاء ولا لطّام. مخطئ من يظن أن الطاغية له قلب يتوجع حين يسمع أرملة تبكي أو شيخا ينحب، لأن ضميره قد قدّ من خشب كرسي السلطة الذي التصق بأسته.
من كل ذلك خرجت بأن في كل طاغية سادية لا ترويها دموع المظلومين حتى لو ملأت الربع اليابس من الكرة الأرضية. وعرفت أيضا بأن الطغاة ترعبهم الأغاني وتفقدهم توازنهم. ليس اليوم، بل من اليوم الذي انقلبوا فيه، بفعل رعبهم، إلى كلاب مفترسة تنهش أصابع مغني الحرية الخالد فكتور جارا وهو يغني ضد الدكتاتورية في ملعب تشيلي الرياضي بسانتياغو عام 1973. فعلام لا تغنون أيها المتظاهرون؟
غنوا، لتسقطوا ادعاء من يتهمكم بالطائفية. فإن كان هناك أذان سني وآخر شيعي. وهناك وضوء سني وآخر شيعي. وهناك رجل دين سني يقابله شيعي. لكن هل سمعتم بأغنية سنية وأخرى شيعية؟
غنوا، لتلجموا من يتهمكم بالإرهاب لأن الإرهابي لا يغني.
غنوا، لتقطعوا الطريق على من يتاجر بمطالبكم أو يسيسها لصالحه لأن حناجرهم صدئت مثل قلوبهم بفعل الفساد ونهب أموال البلاد والعباد.
غنوا، لينكشف الصوت النشاز الذي اندس أو قد يندس بينكم.
غنوا، لتعرفوا من هو معكم ومن عليكم.
غنوا، لتميز الناس خيط تظاهراتكم الأبيض عن خيط تظاهراتهم الأسود.
غنوا، لتكشفوا عورة الظلاميين وتشعروهم بالعزلة، إذ ليس عندهم ما يغنونه أو يتغنون به.
غنوا، لتنتصروا يا أولي الحياة.