TOP

جريدة المدى > سينما > فقأوا البصر.. لكنهم لم يفقأوا البصيرة

فقأوا البصر.. لكنهم لم يفقأوا البصيرة

نشر في: 16 يناير, 2013: 08:00 م

لم ينبثق عنوان هذا الفيلم من فراغ، فلقد سبق للمخرجة السويسرية عايدة شليفر (من أب عراقي وأم لبنانية) أن درست في المعهد العالي للسينما في مصر عام 2003، وتخصصت في الإخراج السينمائي تحديداً بعد أن درست في زيورخ الفن وتصميم وسائل الإعلام. من هنا فإن مضمون

لم ينبثق عنوان هذا الفيلم من فراغ، فلقد سبق للمخرجة السويسرية عايدة شليفر (من أب عراقي وأم لبنانية) أن درست في المعهد العالي للسينما في مصر عام 2003، وتخصصت في الإخراج السينمائي تحديداً بعد أن درست في زيورخ الفن وتصميم وسائل الإعلام. من هنا فإن مضمون فيلم "أنا اسمي مواطن مصري" قد جاء نتيجة لتجربة حياتية معيشة عرفتها من كثب. وكدأب عايدة دائماً فقد اختارت لهذا الفيلم ثيمة محددة وهي (فقء الأعين)، ويا لها من ثيمة مُفجعة وقاسية تكشف عن لؤم مرتكبيها، ودناءة ضمائرهم البشرية، إن كانت لهم ضمائر! خصوصاً وأنهم، أي الشرطة المصرية في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، قد اختاروا الاصطفاف إلى جانب الجلاد ضد الضحية. هؤلاء الشرطة لم يكونوا حتى شرطة عاديين، وإنما هم شرطة قنّاصة يصطادون ضحاياهم مع سبق الترصد والتعمّد والإصرار، فطلقة القناص لم تكن، ولن تكون عفوية أو طائشة، وإنما هي تتقصد الضحية، وتتعمد فقء عينه بهدف حرمانه من البصر، ونعمة النظر التي قد لا توازيها نعمة أخرى في الحياة خاصة لأولئك الذين يفقدونها بعد تمتعهم بها لسنوات طويلة. ربما يكون الشرطي العادي الذي يطلق ناراً "معذوراً بقدر أو بآخر" بحجة الدفاع عن نفسه أو عن أمن "الدولة" المزعوم، ولكن القنّاص متلبّس بالجرم المشهود والمتعمد الذي يبغي إعاقة ضحيته وتعويقها مدى الحياة، وهذا ما حصل في فيلم "أنا اسمي مواطن مصري" حيث انتقت المخرجة عايدة بضعة ضحايا أصيبوا في عيونهم ، نذكر منهم عماد صالح مُساعد، ومحمد مجدي محمد عبد التواب وعدداً آخر من الضحايا الذين يطلّون علينا بين أوانٍ وآخر ليسردوا مِحنهم التي تتمثل بفقدان إحدى العينين أو إصابة الاثنتين في آنٍ معاً، هذا ناهيك عن الإصابات الأخرى التي يتعرض لها الضحايا في أجزاء مختلفة من أجسادهم، فالخراطيش المخصصة لفقء الأعين فيها عدد غير قليل من الرصاصات السريعة الاختراق التي يمكنها أن تشوّه مساحة كبيرة من الوجه أو أية منطقة أخرى مُستهدَفة. كما دأبت عايدة أن تستضيف طبيباً متخصصاً في الحالة تعالجها أو تتعاطى معها بشكل فني، وهي طريقة علمية ومستحبة في الفيلم الوثائقي القائم على الحوار أو ثنائية السؤال والجواب حتى وإن كان السائل مُغيّباً، وقد لعب طبيب العيون وائل أحمد عويس دوراً مهماً في تسليط الضوء على   محنة العيون المفقوءة.
تابعت المخرجة عايدة شليفر حالة فقء العيون المتعمدة خلال الأسابيع الثلاثة التي أسقطَ فيها الشعب نظام مبارك وسلطته الأمنية المستبدة. وقد أحاطنا أحد الضحايا علماً بأن عدد المصابين في عيونهم قد بلغ "9000 " مواطن وهو رقم كبير بكل المقاييس سواء أكانت الإصابة في عيونهم أم في أي جزء آخر من أجسادهم.
بدأ المصابون بالتوافد على المستشفيات الخاصة والعامة منذ يوم 25 يناير، لكن الأطباء كانوا يترددون في معالجتهم لأكثر من سبب، فالعناصر الأمنية والمخابراتية التابعة للنظام مبثوثة في المراكز الطبية والمستشفيات الخاصة والعامة، كما أن المصابين أنفسهم قد يتعرضو ن للاعتقال في أية لحظة، وإذا أقدم الأطباء على معالجة المصابين فمن المحتمل أن يُقبَض عليهم من قبل هذه العناصر الأمنية المبثوثة في معظم المستشفيات الحكومية العامة، لذلك فإن معاناة الضحايا كانت كبيرة تتوزع بين الخشية من السجن والخوف من فقدان البصر.
ذكرَ بعض المصابين أن الأطباء الشباب كانوا الأكثر جرأة من الأطباء الاختصاص والأكبر سناً، وقد شاهدنا أحد هؤلاء الأطباء الشباب وهو يشرح على شاشة الكومبيوتر طبيعة إصابة بعض العيون التي اخترقتها رصاصات القناصين.
لم يجد غالبية هؤلاء الضحايا العناية المطلوبة، فلا يكفي أن يغلق الطبيب الجروح التي فُتحت في العين اليمنى أو اليسرى، وإنما كان يجب أن تُجرى للضحايا تداخلات جراحية لاستخراج هذه الرصاصات الصغيرة التي يقول عنها الأطباء أنها مستقرة خلف العين مباشرة، كما لا يكفي سحب الدماء التي نزفت داخل تجاويف العين، وإنما إجراء عمليات طبية كاملة يمكن أن تعيد لبعض هؤلاء الضحايا بصرهم الذي فقدوه بسبب دفاعهم المستميت عن الوطن. أما قضية العيون الصناعية التي تُعتبر حلاً جمالياً لا غير، فهي مثل الكي آخر العلاج، ولابد للدولة من تزويدهم بهذه العيون، وتعويضهم مادياً عن مجمل الأضرار التي لحقت بهم لأن معظم هؤلاء قد أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة وعلى الدولة أن تؤمن لهم كل حقوقهم القانونية المتعلقة بالسكن والعيش والعلاج المجاني.
كان بعض المصابين متذمراً من الأوضاع العامة في مصر، بل كان فيهم منْ يفكر بالرحيل الأبدي عن مصر، وقد سمعنا أحدهم يقول بما معناه: "إذا وضعت قدمي على أرض المطار فلن أعود ثانية". كان هذا الكلام قبل الثورة، ولكن صار للحياة طعماً آخر بعد أن سقط الدكتاتور وعادت مصر المُختطَفة من قبل عصابات مبارك إلى أبنائها الحقيقيين الذين يتوجب عليهم أن يضعوا قاطرة مصر على سكة الحياة من جديد لتأخذهم صوب التطور والتقدم والحداثة.
لقد نجحت عايدة شليفر في معالجتها الفنية لهذه الفكرة الدقيقة التي تمحورت حول فقء عيون الثوار المتظاهرين، وأوصلت لنا بذكاء ملحوظ أن السلطة الغاشمة في أي مكان من هذا العالم يمكن أن تفقأ عيون المتظاهرين والمحتجين والثائرين، لكنها لن تستطيع أبداً أن تفقأ بصيرتهم، فالشاب الذي كان متذمراً، وينوي الهروب من مصر كلها، قال بما معناه :إنني كنت سأعود بعد الثورة إلى مصر حتى وإن كانت هذه العودة في تابوت.
بقي أن نقول إن عايدة من مواليد بغداد، درست الألمانية لمدة سبع سنوات، كما درست الإخراج السينمائي وتخصصت فيه،  إضافة إلى دراستها للفن والإعلام في زيورخ. تزاول عايدة الرسم أيضاً، وقد أقامت عدداً من المعارض الشخصية في زيورخ وبيروت والقاهرة. أما غالبية أفلامها فقد عرضت في عدد غير قليل من المهرجانات السينمائية العالمية ونال بعضها جوائز مهمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram