ترك الربيع العربي " الخريفي" في نتائجه، فسحة مجانية للاطلاع على اسرار الدكتاتوريات المتداعية ونمط تفكيرها وتعاملاتها واساليب ادارتها للحكم وللطبقة الحاكمة. ونظرة ثاقبة في تلك الاسرار وخباياها تكشف بعض عناصر وتراكيب صناعة الدكتاتور والمستبد. وإذ تتعدد
ترك الربيع العربي " الخريفي" في نتائجه، فسحة مجانية للاطلاع على اسرار الدكتاتوريات المتداعية ونمط تفكيرها وتعاملاتها واساليب ادارتها للحكم وللطبقة الحاكمة. ونظرة ثاقبة في تلك الاسرار وخباياها تكشف بعض عناصر وتراكيب صناعة الدكتاتور والمستبد. وإذ تتعدد مصادر هيمنته وركائزها، فإن اعادة " تخليق " حاشية الحاكم وبني عمومته وأدواته السياسية في الحكم ، تشكل احدى الجوانب الجديرة بالتأمل والدراسة للدخول الى عالم الحكام المرشحين للانتقال من حال الى حال، من لبوس الوطنية وأسمال الديمقراطية الهشة الى التجبر وخيلاء كراسي السلطة المطلقة .
ان نماذج بن علي تونس، وقذافي ليبيا ، وعلي صالح اليمن ، وحسني مبارك مصر، لم تزل حيَّةً تنبض بالعبر والدروس، ووقائعها تتحرك وتتكشف عن العوالم الخفية لهؤلاء السلاطين الممسوسين بلوثة الأبدية والتوارث في الحكم. وقبلهم ترك صدام حسين وقائع من نمطٍ آخر، لكنه لم يخرج عن السياقات النمطية لهؤلاء المستبدين، التي هي إرث مشترك لمجايليهم في العالم الثالث، خصوصاً اولئك الذين افرزتهم الانقلابات العسكرية "الوطنية" وحركات التحرر الوطني المغدورة .
ودون الخوض في تفاصيل صناعة الدكتاتور وابراز المشتركات بين النماذج المذكورة، فان جانباً حيوياً من هذه الصناعة له أهمية راهنة لتجربتنا العراقية المتعثرة حتى الآن بين حالين، حال المرتجى للحؤول دون انهيار التجربة الديمقراطية وانكسارها ، وحال التدحرج الى الضفة الاخرى المفتوحة على الخراب . وهذا الجانب لا يشكل اكتشافاً ، وانما تأكيداً على السيرورة النمطية المطلوبة لصعود الدكتاتور وتكريسه، والقيم والمبادئ المفاهيمية لتخليقه وإحاطته بكل ما يجعله ضرورة، لا فرق سوى من حيث التسمية والتوصيف، "إلهية " كانت أو "دنيوية "، فهو ضرورة تاريخية، او مختار للعصر، أو ملك للملوك ، أو قائد للثورة .
وهذا الجانب يرتبط بتشكيل الطبقة السياسية الحاكمة، ومصادر تكوينها وتخليقها . ولسنا بحاجة لإمعان الفكر لتشخيص هذه المصادر، ولا المناخ الذي جرى فيه تكوين طبقتنا السياسية و"صفوتها الحاكمة " التي تتكاثر مع كل انتخابات محلية او تشريعية ، وتتناسل مع مواسم توزيع مغانم السلطة ودوائرها، حيث ينبعث من غياهب القدر وتقلبات الصدفة وعبثيتها مئات المهمَّشين ومزوري الشهادات واللِحى واختام الورع المتَكلِف ومتغيري الانتماء البعثي المستور، واصناف لم يألفها العراقيون في سالف ازمانهم برغم ما مر فيها من مروقٍ وتزويرٍ وانعدام للكفاءة .
وما يجري اليوم من تراجعاتٍ واخفاقاتٍ ومظاهر تَشي بنزوع منحرفٍ خارج المسيرة الديمقراطية التي يُفترض انها بُنيت على أسسٍ ضامنة دستورياً وتوافقياً، لا يمكن اعتباره من فعلِ فردٍ واحدٍ لا شريك له ولا متواطئ مع فعلته أو متستر على نواياه . ومهما كانت مكنة هذا الفرد الواحد يستحيل عليه تكريس ارادته وفرضها في تسيير حكومة يتشارك فيها المُنسَّبون من كل الكتل المتعارضة، وهو محاطٌ بظروفٍ تتوفر فيها سياسياً وسائل الردع الادبي والاخلاقي على الاقل، اذا ما تجاوزنا الآليات الديمقراطية الهشَّة والتوازنات المختلة التي يمكن التلويح بها واعتمادها، ان لم يكن وراء الأكَمة ما وراءها من مستورٍ يخفي مصالح وتوافقاتٍ على الفساد وتبادل المنافع والامتيازات مما يقود الى التغاضي والارتهان .
واذا ما عدنا الى توصيف الجانب المهم من تجربة الدكتاتوريات المتساقطة في الربيع "الخريفي" العربي، فسنرى بوضوح سافر ان كل الامثلة المذكورة تعتمد على اصطفاء نماذج مختارة "رخوة " من الطبقة السياسية "مسكونة " برهاب السلطة والمال والجاه، آتيةً من سطح المجتمع المتلبسة بشبهات الفساد او المستعدة للخوض في اوحاله، والمنبعثة من قاع المجتمع أو اطرافه والمتطلعة للخروج من متاهة النسيان والاقصاء الاجتماعي .
وتبدو حالتنا في درجة من الرثاثة، بحيث انها لقيطة بين اترابها، تضفي عليها لمساتها الخاصة، كما الفساد العراقي نفسه، فهو لا يشبه اي فسادٍ بالتمثيل او التشبيه المبتسر، بل هو جديرٌ بالمفاخرة والتسويق، بوصفه "حداثوياً" في صنفه، يتنوع ويتخذ له في كل حالة لبوسها. فالفساد العراقي ديمقراطي الهوى، مثل ديمقراطيتنا تماماً، وقد بات لكثرة تنويعاته كافياً لاستحداث معرضٍ لبضاعة مبتكرة، يضم كل اشكال ونماذج فسادنا، بدءاً من فسادٍ للتصدير، وفسادٍ حسب الطلب، وفسادٍ لبيع وشراء الذمم، متلفعٍ بالدين تارة والمذهب والطائفة تارة اخرى، وفسادٍ عابر للحدود والقارات، وهذا الفساد بكل تنوعاته وتجلياته لا قرار له ، ولا إطار محددا لميادين حركته، فكل ابواب البلاد مفتوحة على مصاريعها امام عنفوانه واندفاعاته، وثروته التي تستنزف ما في باطنه كَدسٌ لا ينضب، مثل أكداس اسلحة الارهابيين وأعتدتهم التي تستولي عليها كل يومٍ دون انقطاع قوات حكومتنا. ومكاسب الفاسدين غير قابل للقسمة والحساب الرياضي البسيط ولا هي محكومة بالارقام القابلة للعد، بفضل خيرات البلاد الوفيرة، وهي فضلٌ من الله ويده فوق الجميع، ما دامت الزكاة فرضُ عيٍن وسبيل مَكينٍ لغسيل الاموال وتهريبها بيسر وتكافل مشروع .
لقد اعتمد القذافي وبن علي وصالح ومبارك ومجايلوهم من الحكام الآيلة انظمتهم الى السقوط، وسيلة استدراج صفوتهم الحاكمة وحاشيتهم الى الانغماس في عالم الفساد وشتى انواع الارتكابات المشينة، وممارسة حالاتٍ من التوحش والتعديات على مجتمعاتهم وابناء جلدتهم تطالها القوانين وتنبذها الشرائع السماوية قبل الوضعية الانسانية، ويصبح لكل واحدٍ منهم ملفٌ وتصنيف في الجريمة .
ولا تبقى هذه الملفات طي الكتمان، بل ان كشف المستور عنها، فنُ الدكتاتور ووسيلته المفضلة لبسط سلطته، وأسر صفوته وارتهان ارادتهم لاستخدام كل واحدٍ منهم ، اينما شاء ومتى ما شاء وبأي كيفية شاء، لا يحرص على بقائها في السر، بعيداً عن انظار الشعب، بل بالعكس تماماً فهو متاح علناً لكل من شاء .!
وقد عرفت طبقتنا الحاكمة الفضاءات المفتوحة المستباحة في بلدان المهجر ، لكل هذا المستور من اسرار الحكام ومظاهر الفساد والاساليب المعتمدة التي كانت في نسيج صناعة الدكتاتور واساليب حكمه، ودخول الحاشيات واشباه الرجال والحكام الى مواخير السلطة ومراتع الفساد .
فهل يستوي بعد كل هذه المشاهد التي فاضت بها فصول الربيع العربي من سير الدكتاتوريات المتهاوية وتلك التي تنتظر، البحث عن العوامل التي تكمن وراء التداعي التدريجي لحصانات مجتمعنا وموانعها الاخلاقية والقيمية ، وانهيار سدودها امام الفساد والخراب الذي بات يلف كل المواقع التي كانت تبدو انها في طريق المعافاة بعد انهيار الدكتاتورية السابقة..؟
وهل يبقى مكان للتساؤلِ حول مصادر التفسخ السياسي الذي تشهده منظومتنا السياسية وفسادها، والعث الذي ينخر في جسد الدولة المضيعة قبل ان تبلغ سن الرشد ويتكامل بنيانها ..؟
أليس من العيب علينا جميعاً أن نضع كل ملاماتنا على مختار دولتنا وحوله كل هؤلاء الوزراء والقادة من منتسبي جميع الاحزاب والكتل ومن المذاهب والطوائف والقوميات والاعراق، ويظل العث يتكاثر ولا من يرفع صوتاً او ينبس بكلمة؟
واين الكتل من ممثليهم في الحكومة والبرلمان وكل مرافق الدولة وهم يبقون في مواقعهم وينعمون بامتيازاتهم بعيدا عن المتابعة والمساءلة، وهيهات ان يصل ذلك الى طلب الاستعفاء أو الاستقالة، فلكل حالة، اذا بلغ الامر هذا الحد ، سبب يبرر تغيير الهوية والانتماء، بما يحفظ ماء الوجه والمنصب.
هل يمكن بعد هذا توجيه اللوم الى المالكي واتهامه بالتسلط والنزوع نحو الدكتاتورية والتستر على الفساد الاداري والمالي؟
هل لنا ان نلومه في ما يريد ويتوجه ما دامت خياراتنا في الإنابة عنا من هو محجوبٌ عن الكلام المباح ، وما دام لكل منهم كتابه في يمينه وملفه في عهدة المالكي ..!؟
تبقى ملامةٌ اخيرة ... وماذا عن ذمة المالكي المشكولة بكل هذه الملفات المستورة؟ وما العمل مع حنثه بالقسم في المسؤولية عن صيانة الدولة والدفاع عن حياضها وثروتها من اي انتهاك او تبديد والذود عن أمن البلاد واستقراره ..؟