ماذا كان يعني نصف مليار دولار في عهد ملوك العراق، ولماذا غضب شاه ايران الاسبق رضا خان على وزير يجهل عدد حوانيت الورد في طهران؟ لقد وعدت القراء بان اكمل الحديث في هذا الموضوع قبل نهاية السنة، وها هي السنة الجديدة تقلبنا في "دولاب الزمان" ولا تترك فرصة لالتقاط الانفاس. ان إله التاريخ او الحرب (ساترن) كما يسميه الرومان كناية عن غريزة التبدل والعنف الدموي، يقيم معنا ليضرب في الرمادي وكركوك خصوم المالكي وشركاءه بلا رحمة، ويقلق كل الارواح حتى في المدن البعيدة التي تراقب بوجل.
وغير بعيد عن مثل هذه الاوجاع وأشكال الندم التاريخي، سأكمل اليوم استعراض صور وحسب عن معنى امريكا في العراق وايران.
ايران التي رأيتها عام ١٩٩١ يوم نزحنا هاربين من القصف خلال الانتفاضة، لم تكن تعرف جبن كرافت ولا السيارات الحديثة وليس فيها اجهزة فيديو، لكنها امتلكت بنى تحتية متينة تحدثت عنها في الحلقة الاولى من هذا الموضوع. وقلت اننا كعراقيين كنا نتفوق عليهم تلك اللحظة بالاكسسوارات بينما يتفوقون علينا بشبكات الهاتف الممتازة وانابيب الغاز التي تصل المنازل والمدن المتأنقة والشوارع العريضة على الطريقة الامريكية او نموذج "البلوار" الفرنسي الذي حدثني عنه السيد عادل عبد المهدي خلال لقاء اخير معه امدني بتصور اعمق حول العلاقة بين الشرق والغرب وتجول كخبير رصين بين مدارس الاقتصاد والسوسيولوجيا الاوربية، وراح يحاول توصيف الفشل العراقي الذي يؤمن انه امر ممكن الاجتناب خلال العقد المقبل!
بدأ التحديث في ايران حين قرر ملوك الحقبة القاجارية ان يتحالفوا مع اوربا ضد العثمانيين، ووصلت بعثاتهم الدراسية الى فرنسا مع وصول بعثات محمد علي من مصر، وبعثات اسطنبول الى حليفها الالماني نهاية القرن الثامن عشر. لكن انطلاق الحداثة جاءت بشكل متطرف حين اغرم رضاخان مطلع القرن العشرين، بطريقة اتاتورك في تحديث تركيا قسريا. ويروى عن الشاه رضا والد الشاه المخلوع محمد رضا، انه كان يضع اهم رجاله سفيرا في اسطنبول لكي يرصد له طريقة اتاتورك في اصلاح تركيا. وراح يقلده ويسابقه حتى في عدد المتاجر التي تبيع الورود في العاصمة. وفي اجتماع للحكومة سأل رضاخان وزراءه عن عدد هذه المتاجر في طهران، فلم يعرف بعضهم الجواب، ما اغضب الشاه وأدى الى اقالة الوزير فورا!
هذه الاسس التحديثية كانت اعمق من التجارب الاخرى، بحيث شجعت امريكا نفسها على مساعدة ايران منذ الستينات لتطوير البلد. ويقال ان واشنطن غيرت وجه كبريات المدن الايرانية بمساعدات مدنية لم تتجاوز ٢٥ مليار دولار، ولكم ان تقارنوا بين هذا المبلغ المفيد، وبين اكثر من تريليون دولار انفقته امريكا في زمن خرابنا على حرب العراق ولم تخرج بنتيجة واضحة حتى الان.
ويبدو ان النقود كانت "اكثر بركة" في الماضي، ففي لقاء جمعنا مؤخرا مع الدكتور احمد الجلبي الذي يمكنك ان تختلف معه او عليه سياسيا، لكنك تذعن لكونه خبيرا عراقيا نادرا في مجال التنمية والاقتصاد، بذاكرة حديدية وانتقال عقلي سريع في الاستنتاج والمقارنة والتأويل، حكى لنا ان مجمل ما انفقته حكومات العهد الملكي العراقي لم يتجاوز نصف مليار دولار من اموال النفط خلال اكثر من ثلاثين عاما، استخدمت في بناء السدود العظيمة والموانئ والمطارات، بينما انفقنا خلال عشر سنوات بعد صدام ٦٠٠ مليار دولار ولم نحصل الا على مشاريع فاسدة.واكثر ما لفت نظرنا في ايران ان الحرب مع العراق لم تستطع اخفاء التقاليد المدنية التي نتجت عن تجربة رضاخان في التحديث. وكنا نرى عمال البناء في المدن الكبيرة، يتناولون طعامهم بالشوكة والسكين، وهو امر لم تكن تفعله في العراق سوى العوائل التي تلقت تعليما ممتازا ولديها دخل وفير. ورغم ان ثورة اية الله الخميني اشاعت زهدا بين الناس وحولتهم الى مشاريع استشهاد، لكن احد اقاربي الذي كان ينقل بسيارته عمالا ايرانيين، ظل ينبهني مرارا كيف ان اولادا قرويين في ديزفول، يحرصون على ترتيب ملابسهم وتصفيف شعرهم، ويقارن بفقر الاتيكيت لدى عاملنا المسحوق.
التحضر في ايران استفاد من استقرار منحته الجغرافيا السياسية. هضبة زاغروس العظيمة تحرسهم غربا، والخليج يحدهم جنوبا، والصحراء تتكفل بالباقي. اما العراق الواقع في قلب طرق التجارة التي تسير عليها المطامع منذ ٥ الاف عام، فهو بلا امن في جغرافياه السياسية. فيمكن لراعي الماعز الايراني ان يقرر نزول الهضبة بسهولة نحو وادي الرافدين، كما يمكن لقبيلة نجدية او تركية ان تهبط نحوه من صحرائها او هضابها لتتوغل حيثما تشاء.
في ايران يضعون حجرا على حجر ويرسخ بناؤهم ولا يهدده احد بسهولة. وفي بلادنا تنشأ افخم اشكال التحضر منذ قرون، وتذوي بسرعة لسهولة اقتحام العراق وغزوه وتدميره بقسوة.
الجغرافيا السياسية اتاحت للحكمة ان تنمو في بلاد فارس، وحين جاءتهم امريكا وقبلها اوربا، استفادوا كما تركيا بل وحتى الاردن والخليج، اما حين جاءتنا واشنطن فقد تجمعت كل الظروف التاريخية وبطريقة إله الرومان ساتورن، او ربات العبث عند ديونزيوس الذي يحبه نيتشة، لتحرمنا من توظيفه قدرة امريكا وامكاناتها، الا بالنزر اليسير.
والمصيبة ان كل ما يجري اليوم يؤشر ان صوت العابث اعلى من لهجة الحكمة، وأن سوطه يكتب مسارا لتعميق الفشل على ظهور المساكين شرق العراق وغربه بلا ادنى فرق.
جميع التعليقات 1
rafi dhia
والله عاشت ايدك على هذا الكلام بس وين الي يتعض