العقد النفسية التي تكوَّنت في العراق تجاه دول الجوار أيام صدام حسين، لم تنحل في "العراق الجديد"، بل تكرست وزادت، بسبب البعد الطائفي الذي أعطاها زخما سياسيا وعقائديا.
يمكن القول أن "عقدنا" أيام صدام كانت أنظف، وأكثر انسانية، وبالتالي ذات مشروعية أخلاقية أكبر. حتى 1990 لم تكن هناك "عقد" في العراق تجاه دول الجوار. ولكن كان لدى الطليعة المتنورة من الشعب "موقف" من العالم. فقد كان العالم كله موحدا في دعم صدام، عدا ايران التي كانت مشتبكة معنا لغاية 1988 في حرب بدعم سوري وليبي. وكان المتنورون من العراقيين يرون العالم وهو يدعم نظاما شموليا (توتاليتاريا)، بينما كانت ايران متمسكة بحرب تزيد الطين بلة على العراقيين. فهم مبتلون بأسوأ أنواع الأنظمة أصلا، وهي تضيف، الى معاناتهم منه، الحرب وهي أسوأ الشرور.
في تلك الأيام كان العراقي المعذب بالشمولية والحرب يشعر بأنه وحيد.
ثم جاء غزو الكويت عام 1990، ومع ما ترتب عليه من نتائج اكتنف العراقيين يأس من العالم. فقد انقسم العالم بين قلة تدعم صدام، وأكثرية تخوض الحرب ضده: فمن دعم صدام، الدكتاتور الكريه، كان يمعن في التنكيل بالشعب العراقي، ومن كان يخوض الحرب ضده كان يساوي بينه وبين الشعب العراقي. ومع قسمة العالم الى هذه الثنائية كان الشعب العراقي يتقلى بشعور عال بالوحدة.
مع سنوات الحصار تفاقم شعور الوحدة، أو الشعور بخذلان العالم، الى كره للعالم عامة، ولدول الجوار العربي خاصة على قاعدة "الأقربون أولى بالعتب". فلم يبدر من العرب شعور، ولا عمل، يدل على تعاطف مع العراقيين الذين بلغت معاناتهم أقصى التطرف في أعوام الحصار الدولي.
في تلك الأعوام الرهيبة تكوّنت "العقد النفسية" تجاه دول الجوار خاصة والعالم عامة. انها ليست من العقل في شيء، ليست صحية، ولكنها رد فعل مفهوم لشعب وجد نفسه وحيدا وهو يسحق تحت الضغوط الهائلة للدكتاتورية والحصار.
وعندما وقع الغزو الأميركي بدا وكأن العراق استهل تاريخ النجاة. لكن الغزو رُفض من العالم عموما، والمنطقة خصوصا، لأنه لم يحظ بالشرعية الدولية، أي موافقة كل أعضاء مجلس الأمن، ولأنه جاء في اطار مشروع بوش الداعي الى النشر العنيف للديمقراطية، الذي أفزع دول المنطقة، فتصدت له بقيادة ايران وسوريا. وكان بين نتائجه جعل العراق ساحة معركة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة.
هذه المرة أمسى الشعب العراقي ضحية صراع دولي شرس، وداخلي أشرس بسبب ظهور العامل الطائفي. وهنا اكتسبت "العقد النفسية" من دول الجوار مضمونا جديدا. فلم يعد سببها المعاناة الانسانية، وانما الأهواء الطائفية التي قسَّمت السياسة والشعب بين المحورين الايراني من جهة والعربي – التركي من جهة أخرى.
وعادة ما تتخذ "العقد النفسية" مسالك متعارضة مع العقل، أو مع وعي المصالح الحقيقية للشعب. العقد تلزمك بأن تحب أو تكره، بمعزل عن المصلحة الوطنية أو الانسانية، بينما العقل لا يدعوك الى أن تحب أو تكره بل أن تفهم مصالح بلدك الفعلية لكي تستطيع خدمتها. ولم يُعرف ان بلدا أو شعبا حقق مصالحه بـ"عقد" مؤدية الى تكثير العداوات والخصومات مع جيرانه. فالمصالح تُرى وتُرعى بالعقل. بينما "العقد" حالات نفسية فالتة من سيطرة العقل، وإنْ ارتدتْ أثوابا سياسية وفكرية.