قد يبدو الواقع العراقي مصابا بعاهة الإثارة دائما، ومكشوفا على صناعة الأزمات، وهذا مايجعله أكثر تعرضا للإصابة بالأمراض القديمة التي غادرها العالم المتمدن منذ عقود، فالصراعات الطائفية تعكس مرضا اجتماعيا لم تستطع الجماعات العراقية على مواجه تداعيا
قد يبدو الواقع العراقي مصابا بعاهة الإثارة دائما، ومكشوفا على صناعة الأزمات، وهذا مايجعله أكثر تعرضا للإصابة بالأمراض القديمة التي غادرها العالم المتمدن منذ عقود، فالصراعات الطائفية تعكس مرضا اجتماعيا لم تستطع الجماعات العراقية على مواجه تداعياته السياسية والنفسية والاتفاق على نظام اجتماعي صياني يقوم على أساس انخراط هذه الجماعات في مشروع وطني متكامل، وهو مايعكس في جانبه السياقي عجز الدولة عن إنتاج مثل هذا المشروع والسيطرة على مساراته، مثلما تعكس تلك الصراعات سياسة(التغالب) في التعاطي مع الأدوار السياسية وفي معالجة ضعف البنية التأسيسية المضادة للمشروع السياسي وفي إعادة إنتاج مؤسسة الدولة من خلال توصيفها وتوزيع وظائفها وتحديد سلطاتها..
صورة الدولة المؤسسة هي الصورة الأكثر تشوها في التعبير عن العجز وضعف التمكين في صناعة الأمة، أي صناعة القوة الإطارية الوجودية الجامعة للتنوع والتعدد ضمن مشروع تنظيمي يقوم أساسا على قوة وفاعلية المعنى الحقوقي والسياسي للوجود المشترك ..
هذه الصورة المتخيلة لفرضية الأمة ارتهنت طوال أكثر من ثمانين عاما إلى قوة الجماعات، بوصفها القوة الديموغرافية والعاطفية النافرة عن فكرة الأمة مفاهيميا ومؤسساتيا وتنظيميا، إذ ظلت هذه الفكرة خاضعة للتوصيف الثقافي أكثر من أي توصيف آخر، ولطبيعة التأطير الخارجي- الجغرافي والسياسي- المهيمن للقوى الخارجية التي احتلت العراق، والتي لاتطمئن لتفكك مكوناته في دول افتراضية، خاصة وان العراق محاصر بدول قومية كبرى ،مثل إيران وتركيا..
إن الحديث عن أزمة الدولة يعني الحديث عن تاريخ هذه الأزمة بدءا من لحظة تأسيس الدولة عام1921 والى يومنا هذا، إذ تحولت هذه الدولة إلى حاضن لجماعات مهيمنة، وأخرى خاضعة، وإلى بنى مؤسساتية هشة- عسكرية ومدنية- خاضعة لهذا التهيمن!! وهو ماولّد شعورا عميقا بالأزمة، مقابل فرض تنظيم إطاري لصياغة واقع اجتماعي محكوم بسياقات طاردة، وسياقات غير مشبعة بفاعليات ترسيخ فكرة الدولة والأمة على أساس الانتماء لها أو الاطمئنان إليها، خاصة وأن السياسات الاقتصادية والاجتماعية كانت الأقرب إلى التوجهات المدينية البسيطة، أي خلق صورة جاذبة للمدينة التجارية، ولقوة الجماعات القوية التي تتحكم بالسوق، وبنظام العسكرة، وسياسات التعليم، وهو ما أسهم في خلق فجوات اقتصادية كبرى، وأزمات اجتماعية عجزت الدولة الضعيفة عن إيجاد حلول ناجعة لها...ولعل هجرة الريف العراقي- خاصة الريف الجنوبي- إلى بغداد هو العلامة الخطيرة على ضعف صناعة الحواضن، أو تبني سياسة الإشباع والتنظيم، وهذا ليس بسبب التملك الإقطاعي المباشر كما يشاع، بل بسبب ضعف الإدارة السياسية التي جعلت من الإقطاع ذاته جزءا من نظام الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية، وقوة غير واعية في تشويه البنية الاقتصادية الضعيفة للدولة العراقية الناشئة، وبالتالي أسهمت هذه العوامل وغيرها في إيجاد تصدعات اجتماعية ووجودية أدت إلى إفشال مشروع الدولة المؤسساتية، وهشاشة وجود النظام الاجتماعي والاقتصادي الكافل لوجود الجماعات داخل إطار هذه الدولة..
أزمة المتن والهامش
تداعيات زمن الأزمة وتراكم احتقاناته انعكس من جانب آخر على صناعة قوى اجتماعية قهرية عند هامش المدينة التجارية، إذ تحول هذا الهامش إلى طوق والى مولد اجتماعي للحركات السياسية والأيديولوجية المناهضة للدولة وتحت شعارات أخلاقية مثل- عمالة الدولة للغرب، رجعية الدولة، سياساتها المرتبكة، مظاهر الظلم الاجتماعي والتخلف والفساد وغيره- فضلا عن دور هذا الهامش في تغذية مظاهر العسكرة العراقية الناشئة... وأحسب أن ضعف الدولة هو الذي أسهم في تأزيم هذا الهامش، أي تأزيم جماعات اجتماعية بدأت تظهر بقوة عند بنية المدينة، بوصفها المدينة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعدم القدرة على استيعابه داخل المتن المديني، أو إدخاله في التصميم الأساسي لجغرافيا المدينة، وهو ماجعل هذا الهامش القوي والمؤثر والفطري هامشا للعشوائيات التي أثرت في ما بعد على صناعة الشكل السياسي للمدنية ولصراعاتها الدامية، ولعل ماحدث من أزمات كبرى في العراق السياسي، خاصة بعد أحداث الانقلاب الدموي في 1963 صورة مضخمة للصراع مابين العسكرة التي تمثلها التيارات القومية التي كانت جزءا من صناعة الدولة القديمة- الدولة الملكية- وبين القوى الشعبية الرافضة للانقلاب التي يشكل الهامش المديني قوتها الكبرى..
انهيار حكم عبد الكريم قاسم كان علامة لصعود متن عسكري وأيديولوجي وطائفي أكثر شراسة وعنفا في فهمه للدولة، ولبنياتها المؤسسة، إذ أعاد هذا النظام مفهوم الدولة إلى فكرة الذات القومية العروبية الناشئة على طريقة جمال عبد الناصر، والى أوهام صراعاتها مع القوى الخارجية، مثلما كرس هذا النظام القوة الطائفية التي تربط بطريقة تلفيقية مابين الأمة العروبية والدولة السياسية، والإسلام بوصفه القوة التاريخية للدولة القديمة وبين النظام الأيديولوجي الذي اقترحته الجماعات الانقلابية التي جاءت عام 1963 وفي عام 1968..
هذا المتن الحاكم تحول إلى قوة عميقة ارتبطت مع القوة الإقليمية، ومع القوة الداخلية للجماعات المهيمنة، والتي كرستها عبر مجموعة من السياسات الاقتصادية والأمنية والأيديولوجية والتعليمية- وهو أخطر السياسات- لفرض شكل توصيفي للدولة والأمة، مناهض لكل تاريخ الهامش الذي ظل هامشا عشوائيا، وهامشا متلصصا على عرى المتن المثير والغاوي، الذي أغرى البعض منه للدخول الاضطراري أو الاغموائي للمتن، وبشروط هذا المتن، إذ تحول العديد من أبناء هذا الهامش- تحت ضغط الحاجة أو الكشف أو بساطة الوعي- إلى موظفي خدمة والى رجال امن والى أعضاء في التنظيمات الحزبية وفي العسكرة، والذي تضخمت ظاهرته خاصة في ثمانينات القرن الماضي خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية وماتلاها من أحداث وصراعات انعكست بشكل خطير على تشويه الطبيعة الإنسانوية للهامش وتورطه بأعمال وممارسات تنتمي لحسابات المتن العصابي الحاكم وطبيعة خطابه المأزوم.
ما بعد 2003..أزمة الدولة والأمة..
قد نجد في الكثير من أحداث ما بعد احتلال العراق أمريكياً تداعيات قديمة، هي
جزء من أزمة الدولة الملكية والجمهورية العسكرية، إذ برزت أزمة الأمة من جديد، وأزمة توصيف الدولة والمؤسسات والسلطة والهوية، بطريقة مكشوفة، مثلما برزت أزمات المكونات، وأزمة علاقة هذه المكونات بعضها بالبعض الآخر، وطبيعة أدوارها ووظائفها في البيئة السياسية الجديدة، البيئة المدنية، والأطر الديمقراطية الدستورية التي تقوم على أساس وجود التعدد والتنوع والشراكة..
ولعل من أخطر ما يتعالق مع بروز هذه الأزمات هو الانكشاف على سلسلة معقدة من الصراعات الخبيئة، الصراعات حول مفهوم الحكم، وحول هوية الدولة، وحول الحقوق القومية والاجتماعية والثقافية للمكونات..وحتى الدستور العراقي الذي أقرّ بقبول ثلثي الشعب العراقي فإنه ظل حافلا بالكثير من المناطق القانونية غير الواضحة، التي لا تتفق مع الشرط المدني الكامل للدولة وللمواطنة، وللتأكيد على توصيف المواطن بوصفه القوة الحقوقية لفكرة المواطنة، فالعراق الجديد على وفق هذه التصورات هو عراق مكونات وليس عراق مواطنين...
ومن هنا فإن استمرار هذه القراءات المبتسرة للدستور، ولعدم الاتفاق على توصيف الدولة، فان الأزمات التي تهدد العراق الواحد ستتصاعد، وستهدده بالتقسيم، أو بالحرب الطائفية أو القومية، وهذا ما يدعو الجميع إلى الاحتكام النقدي للعقل، لإعادة ترسيم حدود الحوار بين الفرقاء، والعمل على تجنيب العراق الرخو أزمات جديدة، ودعوة القوى الداخلية للتعاطي العقلاني مع هذا الواقع، والنأي بنفسها عن إعادة إنتاج صورة الدولة الطائفية والعسكرية في مرحلة ما قبل 2003 لأن تلك الدولة هي دولة أزمة ودولة مهيمنات، وبقطع النظر عن تشوهات الدولة الجديدة وضعف مؤسساتها، فإن سيرورتها لأن تكون نموذجا لدولة الأمة، ودولة التعايش موجودة، مع الحاجة لتعزيز الأبنية المؤسسية الكبرى لها، بدءا من البناء المؤسسي التعليمي وهو أخطر المؤسسات وعلى أسس حضارية وإنسانية وليست طائفية دينية أو قومية، وعلى مستوى البناء المؤسسي الاقتصادي، أي الاقتصاد الحر والاقتصاد الاستثماري، ناهيك عن البناء المؤسساتي الأمني والسياسي وفي سياق حقوقي شفاف وواضح..فضلا عن ضرورة المشاركة الواسعة في المحافل الدولية، إن كان على مستوى الشراكات الاقتصادية أو الاتفاقيات في المجالات الأخرى، لأن الوجود الدولي يعني ضمان وحماية لمشروع الدولة الجديدة من تدخلات محتملة من مناطق مأزومة، ومناطق أدوار سياسية لها مصالح معروفة ،مثل دول الخليج وإيران وتركيا، وبعض الجماعات المتطرفة التي تنتمي إلى مشروع الدولة القديمة...
السياسة وفن إدارة الممكن
يضع البعض توصيفا لسياسة الدولة العراقية بأنها ممارسة الممكن، وأنها ممارسة تنطلق من طبيعة المسؤولية التي تفترضها ظروف أزمة بناء الدولة، لكن البعض الآخر لا يقتنع بهذا التوصيف، وينظر للسياسة على أنها ممارسة في القوة لمواجهة الأزمة من قبل أطراف متخاصمة، وأن الممكن فيها يبيح لصاحبه أن يتجاوز على الآخرين بأية طريقة كانت لكي يحظى بالمزيد من الامتيازات وتحقيق المزيد من المصالح، وأن مفهوم الدولة في حساباته تدخل في إطار هذه الحسابات، وما تقترن به من الترويج لفرضية القوة من خلال التهديد بتعويق مشروع الدولة وتهديد عمليتها السياسية، فضلا عن المجاهرة بفرضية إعادة مفهوم السيطرة على مفاصل القوة والثروة، وبالتالي فإن مشروع الدولة، وعلى وفق هذه التلويحات سيكون مشروعا مهددا من قبل الآخرين دائما. البعض الثاني يسعى إلى أن يقطع الطريق على أي اتجاه للدفاع عن أي تصور آخر للحوار حول مشروع الدولة الديمقراطية والمدنية، من خلال الكشف عن أزمة المصدات والمعوقات التي تقف بوجه العملية السياسية، وحتى الكشف عن أية مرجعية داخلية أو إقليمية أو حتى دولية صناعة الأوهام التي تضل الطريق إلى مشروع الدولة الحقيقي، والتي تتبنى أحيانا مايشبه التهديد لبعض الفرقاء السياسيين، لأن المصالح ستكون هي الغالبة، وسياسة الخنادق ستكون أيضا ذات أثر على الواقع السياسي، وأن أدلجة المصالح بأطر محددة ومثيرة للجدل ستكون عناوين كبيرة تجذب لها العديد من العاطلين عن مشروع الدولة الحديث.
فرضية السياسة والإدارة تعني التلازم مابين وعي الحاجة والتنظيم والتدبر، وإن التعاطي مع ضرورة الدولة الجامعة تعني أيضا وجود الأطر والآليات التي تقوم على الحوار والتفاعل والركون إلى الدستور بوصفه القانون العام والرسمي الجاهز للمعايرة، لأن الحديث الغريب والمجرد عن فكرة الاتفاقات العبرة للدستور مهما كان وجودها هنا أو هناك، أو تحت أي ظرف كان، فإنها تعني بالمقابل وجود قوة افتراضية لإعادة إنتاج فكرة الجماعات، أو ربما رغبة دفينة –كما عند البعض- لـ(تمييع) الدستور والتجاوز على بعض أحكامه، وتعويم الكثير منها، خاصة مع الدعوة المنقذة لأن يكون الدستور مرجعا للجميع.
الدعوات لصناعة الأزمة أو إعادة إنتاجها، هي من يضعنا أمام إنتاج الأزمة، وأمام استعادة اللاوضوح في الفكرة القديمة للدولة والأمة، إذ أن من يفترض إسباغ نوع من الشرعنة اللادستورية على بعض المطالب العامة خارج إطار الحوار، يضع الجميع أمام مواقف وأزمات قد تتكرر، وقد تعوّق عمل أي حكومة مستقبلية، لأن هذا الطرف لا تعجبه سياسة الطرف الثاني، وانه سيقوم بحشد العديد من القوى لرفض هذه السياسة، والإعلان عن اتفاقات جديدة وهلمّ جرّا !
إن العمل الواضح على تغليب أحكام الدستور هو الأساس بتخفيف أزمات الواقع، وطمأنة الجميع من خلال ضرورة حماية الدولة، لأن نمو فكرة الدولة هو الضامن لفكرة الأمة الوطنية، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحا للجميع، وأن تسعى الجهات والقوى السياسية والجماعاتية ومنظمات المجتمع المدني كافة لتأصيل هذه التصورات في الواقع وإعطائه الشرعنة والثقة، والدعوة لأن يدرك الجمهور العموم قيمة الدستور- بقطع النظر عن الخلاف حوله- لأن المرجعية التي تملك الأهلية القانونية والأخلاقية، ولأنه الوثيقة التي يمكنها أن تكون القوة الحاضنة والحافظة والراعية لحقوق الناس- مكونات ومواطنين وجماعات- بعيداً عن التوصيفات الطارئة التي يطرحها السياسيون في اتفاقياته التي لا تنتهي.
جميع التعليقات 1
هرمز كوهاري
بدءا اُريد للعراق ان يكون دولة مدنية دينية طائفية قومية ،اي دولة بهوية عربية سنية ، وبهذا تناسى المؤسسون المكون الشيعي والكردي والتركماني والمسيحي ، ولم يتمكن العراقيون من الاتفاق على شخصية عراقية ليكون ملكا عليهم !! واتفقوا على شخصية غير راقية !!