ليس هنالك شيء أكثر مراوغة من الهوية، وأكثر منها قدرة على أن تتشكل بطرق مختلفة، تتكسر لقطع كثيرة جداً ومختلفة عن بعضها البعض، ثم وبلحظة ما، تعود لتتجمع من جديد، بِكُلٍ موحدٍ ومنسجم ومتآلف لأبعد الحدود..
خلال الأيام الماضية، طالعت الكثير من الآراء التي تتحدث عما فعله لاعبو كرة القدم وهم يجمعون شتات العراق تحت راية واحدة لا يختلف عليها اثنان، تلك هي راية كرة القدم، الراية التي فعلت ـ كما يؤكد الجميع ـ ما لم تفعله السياسة ولا الثقافة ولا الفن.. وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن ثمة موضوعا يجب التوقف عنده، هو موضوع الهوية، أقصد أن الذي فعلته كرة القدم العراقية أمر طبيعي يحدث مع أي هوية عرضة للانقسام. فالهوية لا تنقسم بشكل اعتباطي كيفي، بل هي تفعل ذلك لأسباب مختلفة، كسبب المصلحة مثلاً، فالجماعة الواحدة، تنقسم عندما تنقسم مصالح أفرادها، أي عندما لا تجمعهم المصالح بل تفتتهم، ويعودون للاجتماع عندما تشترك مصالحهم من جديد.
يحدث هذا في العراق وفي أي بلد أو مجتمع أو قومية. يتصارع أبناء الوطن الواحد عندما تتقاطع مصالح قومياتهم، أو مشاعرها، أو يتهدد أمنها المشترك. فيضطر كل اتباع قومية للدفاع عنها مما يهددها، وهذا شأن البشر، وعندما يحدث أن يظهر في الأفق تهديد يُخيف جميع الأطراف المتصارعة داخل الوطن الواحد، أي عندما يظهر تهديد يهدد مصالح أو أمن أو عواطف الجميع، فمن الطبيعي أن ينسى الجميع، للحظة وربما لأيام، انقساماتهم حفاظاً على المصلحة المشتركة، وهكذا إلى أن ينتهي التهديد المشترك، وتنهي المخاوف الناتجة عنه، فيعود الصراع الداخلي للاندلاع بين الأطراف التي كانت متحدة قبل قليل..
هذا مختصر ما يحدث في العراق من اجتماع القلوب والأرواح والحناجر، خلال لحظات ترقب نتائج مباريات كرة القدم، فثمة في الأفق تهديد يمس الجميع، هو خوفهم من الخسارة، وهذا التهديد يُنسيهم، لفترة، مخاوفهم من بعض. النكتة أن كرة القدم لا تملك سحراً غريباً، وإذا كان لديها ثمة سحر، فهو ذاته الذي تمتلكه الطائفية، أو القومية. سحر كرة القدم الذي يجمع المُختلفين هو ذاته سحر الطائفية. لهذا السبب اجتمع الفرقاء الكرد ازاء التهديد الذي مثلته قوات دجلة، لأنه تهديد يشملهم جميعاً. كما اجتمع الشيعة والسنة، كلاً على جهة، في مواجهة ما بات يسمى "أزمة" تظاهرات الأنبار، فكل منهم وجد فيها تهديداً جمع مختلفيهم. تهديد قوات دجلة بالنسبة للكرد يشبه إلى حد بعيد التهديد الذي تمثله خسارتنا أمام الإمارات، واتحاد كل العراقيين في مواجهة الإمارات، يشبه اتحاد كل طائفة في العراق بمواجهة الطائفة الأخرى، لا فرق.. الموضوع موضوع تمييز.. في مواجهة الأزمات السياسية وفي مواجهة أزمة كرة القدم، على حدٍ سواء.