هناك أوقات في حياة الشعوب تتقدم فيها القوة العضلية على القوة العقلية. وفي أوقات متطرفة تكون القوة العضلية هي المثل الأعلى الحاكم في حياة الجماعة. هذه الأوقات او تلك ليست الأحسن. انها لاشك الأكثر انسجاما مع حياة الغابة، حيث القوة هي القانون الحاكم، فذلك هو حكم الطبيعة.
لكن الانسانية تبدأ من مفارقة حكم الطبيعة، من التناقض معه، ومن معاكسته على طول الخط. تبدأ من حكم العقل، من الحكمة. وموضوع الحكمة هو العدالة. والعدالة هي المساواة بين الناس في حق الحياة، وكل ما يتفرع عنه من امتيازات. وعلى نكران هذا الحق تقوم الغابة، أو حياة الطبيعة، حيث القوي يأكل الضعيف. وهذا الوضع ليس من انشاء ارادة أحد من مخلوقات الغابة، وانما هو نتاج أسباب أو قوانين خارجة عن الاردة، وصادرة عن الطبيعة.
الحيوان يأكل عندما يجوع، ويدافع عن نفسه عندما يُهاجَم. وليس لديه وسيلة للطعام أو تحقيق الأمان سوى ذراعه. والمأكول هو حيوان شريك له في الغابة، مثلما أن مهاجِمَه هو الآخر شريكه في الغابة. لكنه لا يشعر ولا يعرف معنى الشراكة. فالآخر بالنسبة له مجرد صيد للطعام، أو عدو يمكن أن يسلبه حياته. انه ليس لديه وسائل صناعية لانتاج الغذاء، ولا وسائل صناعية لتحقيق الأمان. لا شيء لديه سوى العضلات، بها يستطيع أو لا يستطيع أن يأكل وبها يستطيع أو لا يستطيع أن يحمي نفسه.
العضلات هي الكبير، الغالب، المتحكم، القاهر، الإله.
هذا هو "الوضع الحيواني" الذي يستنكر الناس أن يكون هو ذاته "الوضع البشري". حتى أسوأ الطغاة يزعم أنه يستنكره. فهو يحكم بـ "القوة". والقوة مثله الأعلى من الناحية الفعلية. لكنه لن يقول ذلك، وانما سيعلن أن حكمه ذو هدف سام، وباسم هذا الهدف ومن أجل خدمته يحكم. فلم يعترف طاغية فرد واحد في التاريخ بأن حكمه هو حكم القوة العارية من أي فكرة، أو من أي أخلاق رفيعة، أو أهداف سامية. لن يعترف بأن حكمه هو حكم الغاب. مع أنه في الواقع يحكم ويتصرف تماما مثل الوحوش في الفلاة.
ولأن "الوضع البشري" مختلف فإن الطاغية يجد نفسه دائما أمام عوائق لا تحصى ولا تنتهي. وهو قد ينجح في اجتياز عدد كبير منها، لكنه لن يستطيع اجتيازها الى النهاية. "القوى المعنوية" أو "الروحية" أهم هذه العوائق. هذه القوى تتمثل بأشياء كثيرة، قد تكون الدين، قد تكون الفكر، قد تكون الثقافة، قد تكون شخصيات ذات وزن كبير، قد تكون مؤسسات أو قوى اجتماعية. قد تكون كل أو بعض هذه الأشياء. وحكم القوة العارية ينهض عبر تصفير هذه القوى المعنوية أو الروحية. إنه بمثابة محاولة تطبيق "الوضع الحيواني" على "الوضع البشري". أو اعادة حياة الانسان الى حياة الحيوان.
وهذه هي المحاولة المستحيلة. لن تعرف النجاح دائما وإنْ نجحت مؤقتا. كل تجارب ونظم الاستبداد ارتكبت وترتكب هذه المحاولة. ولقد عج معظم القرن العشرين بنماذج كثيرة منها. ولكن قبل أن ينتهي ذلك القرن العاصف كان معظمها قد انتهى. وظل هناك "الاستثناء العربي"، نتاج لعنة النفط. وها هو يدخل هو الآخر في صراع حياة أو موت مع "الربيع العربي". وفي كل الأحوال، ومهما تصاعد غرور القوة لدى الحكام، فإن حلم الناس بـ "الكبير" يظل أكبر. ومَثَلُهم يقول "اللي ما له كبير يشتري له كبير".
إن هذا الكبير ليس شيئا آخر غير كل ما يتجسد بذخائر وكنوز الشعوب من القوة أو القوى المعنوية. ان السيد علي السيستاني لا يملك جيشا ولا ميليشيا. لكن لا توجد في العراق قوة تعلو عليه. ولعل هذه القوة المعنوية تمثل اليوم الجزء الأهم من قدرة الشعب العراقي على مواجهة غرور القوة العضلية. والقوة المعنوية هي رصيد الانسان الدائم في مواجهة صراعه الخالد مع الحيوان. صراع الحكمة مع العضلة.
الكبير!
[post-views]
نشر في: 20 يناير, 2013: 08:00 م