شهدت السياسة النقدية والمالية منذ عام 2003 تحولا كبيرا في القطاع المصرفي وقد اتخذت الحكومة العراقية بعض الاجراءات الضرورية كإلغاء الرقابة على النقد الاجنبي ورفع القيود على حركة التجارة ورؤوس الاموال&nbs
شهدت السياسة النقدية والمالية منذ عام 2003 تحولا كبيرا في القطاع المصرفي وقد اتخذت الحكومة العراقية بعض الاجراءات الضرورية كإلغاء الرقابة على النقد الاجنبي ورفع القيود على حركة التجارة ورؤوس الاموال ودعم وتشجيع الشركات الخاصة في القطاع المصرفي للانتقال من نظام الرقابة على النقد الى نظام السوق المفتوحة باعتبارها احد متطلبات اقتصاد السوق . و البنك المركزي العراقي باعتباره مصرف الدولة العراقية الذي يرسم السياسة النقدية فعليه التعامل مع هذه السياسة . وبموجب هذا التوجه الرأسمالي المنفتح على الغرب فان السياسة النقدية تفترض تعويم العملة العراقية واخضاعها لقانون الطلب والعرض وعدم التدخل في تحديد القيمة التبادلية للدينار العراقي مقابل العملات الاجنبية ومنها الدولار . فالعملات النقدية تعرض في الاسواق كما تعرض أي سلعة من السلع الاخرى مما يؤدي عمليا الى عدم الاستقرار النقدي. فالطلب والعرض هو الذي يحدد قيمة العملة . ووفقا لذلك فمن المتوقع ان تتعرض العملة العراقية الى مزيد من الضغوط بسبب الازمة السياسية الملتهبة و عدم الاستقرار الامني الذي يؤدي الى ارباك الاسواق و ارتفاع اسعار السلع والخدمات والتوجه نحو طلب المزيد من الدولار.
فبالرغم من تراكم الارصدة النقدية الضخمة للبنك المركزي العراقي التي تشكل غطاءا متينا للعملة العراقية فان الدينار العراقي يتعرض لضغوطات شديدة . فانخفضت قيمته النقدية في الآونة الاخيره من1170 الى 1320 دينار للدولار الواحد ولم يرتق الى مستوى العملات ذات القدرة التنافسية . اما الاستقرار النسبي الذي سجله سعر صرف الدينار في بعض السنوات فقد كان على حساب استنزاف كميات غير قليلة من ألأحتياطات الأجنبية وليس بفضل كفاءة وصواب السياسة النقدية التي حولت البنك المركزي الى مجرد صراف آلي .
وحسب ما يؤكده البنك المركزي العراقي فان احتياطاته النقدية قد بلغت في عام 2012 نحو70 مليار دولار و 31,5 طن من الذهب ووفقا لهذه الارصدة الضخمة فمن المفترض ان يتمتع الدينار العراقي بقدرات تنافسية كبيرة في سوق الصرف الاجنبي وتتجاوز قيمته النقدية قيمة الدولار. والسؤال هنا لماذا تنحدر قيمة الدينار نحو المزيد من التدهور مع هذا الكم الضخم من الاحتياطات ؟
ان التحول نحو اقتصاد السوق والانفتاح على الغرب الرأسمالي فرض على البنك المركزي مواكبة هذا التحول وانتهاج سياسة مستقلة عن التوجيه الحكومي والتحول نحو الادوات النقدية غير المباشرة من اجل تحقيق الاستقرار النقدي ومعالجة التضخم وتحفيز النمو الاقتصادي وغير ذلك من الاهداف التي يهدف الى تحقيقها.
ويتضح التلكأ في عمل البنك المركزي في تحقيق هذه الاهداف بكونه ينفذ سياسات نقدية محكومة بتوجهات وسياسات مؤسسات التمويل الدولية مما افقده القدرة على اتخاذ الاجراءات الكفيلة بايقاف التسرب النقدي الى الخارج والمقدر باكثر من 260 مليون دولار في اليوم وفقا للنشرات اليومية التي يعلنها البنك المركزي . ويجب ان ندرك ان مئات الملايين من الدولارات التي تتسرب الى الخارج هي جزء من الواردات النفطية التي ينبغي ان تستثمر في تطوير الاقتصاد الوطني و في تعزيز قيمة عملتنا الوطنية وصونها من التدهور والانهيار.
ان البنك المركزي مطالب بالتدخل للحفاظ على الاحتياطات النقدية ووقف التدهور الذي يتعرض له الدينار العراقي وتحديد قيمته التبادلية مقابل نظيراته من العملات الاجنبية بما يتناسب والارصدة الضخمة التي يجب ان تؤمن للعملة العراقية الاستقرار والثقة بها كعملة اساسية في التداولات المالية .
ورغم التطمينات التي يطلقها كبار مسؤولي البنك المركزي العراقي عن متانة الدينار العراقي بسبب حمايته بغطاء رصين من العملات الصعبة غير ان مؤشرات السوق تدحض هذه الادعاءات وتؤكد إن قيمة الدولار ترتفع وقيمة الدينار في تدهور .
ان السياسة النقدية المتبعة للبنك المركزي تهدف الى تحقيق الاستقرار الاقتصادي عن طريق الوصول الى سعر صرف ثابت ومستقر للدينار من خلال تراكم الاحتياطات النقدية من العملة الصعبة وبالتالي تحويل الدينار الى ما يقابله بالدولار و ان هذا التوجه لم يحقق الاستقرار الاقتصادي المنشود في بلد كالعراق الذي يعاني من اختلالات هيكلية في القطاعات الانتاجية و من بطالة مستفحلة. فاستقرار سعر صرف العملة الوطنية مرتبط بعوامل كثيرة من بينها قوة النشاط الانتاجي في القطاعات السلعية الزراعية و الصناعية و القطاعات الخدمية من كهرباء ومياه واسكان وصرف صحي وتعليم وصحة التي تولد دخولا نقدية تتناسب مع مخرجاتها مما يؤدي الى تحقيق التوازن .
ان تقلبات سعر صرف الدينار الذي يمثل القيمة الخارجية للنقود وعدم ثباته في السوق المحلية في الآونة الاخيرة ادى الى تبعات سلبية تمثلت في ارتفاع اسعار السلع والخدمات و اضعاف الثقة بالعملة العراقية وتآكل دخول الشرائح الفقيرة كنتيجة لارتفاع الاسعار ودولرة الاقتصاد. كما ادى الى زيادة الطلب على العملات الأجنبية الامر عزز مكانة الدولار في السوق العراقية . وقد ادت الشحة في العرض السلعي المرتبط بالاستيراد الخارجي وعجزه عن تلبية الطلب الكلي للسوق العراقية الى زيادة التضخم. وبذلك اصبح التضخم تضخما مستوردا و مرتبطا بارتفاع التكلفة وبتدهور الناتج المحلي الاجمالي .
أن البنك المركزي مطالب بتعزيز قيمة العملة العراقية وليس الى تقديم المبررات عن التدهور الذي اصاب قيمة العملة . فارتباط السياسة النقدية والمالية للعراق بمؤسسات التمويل الرأسمالية الدولية يثير التساؤل حول جدوى هذه السياسة ومدى قدرتها على تعزيز قيمة العملة الوطنية وتحقق الاستقرار النقدي . فمن تبعات الانفتاح على النظام الرأسمالي انتقال كافة امراض النظام الرأسمالي وازماته المالية والنقدية الى الاقتصاد العراقي وان المحنة التي يعيشها الدينا العراقي ليست بمعزل عن تبعات الازمة النقدية والمالية التي تعصف بالنظام الرأسمالي الدولي .
ان البنك المركزي يستطيع اللجوء الى استخدام ادواته النقدية المتاحه كسعر الخصم والاحتياطيات وغير ذلك من الادوات المتاحة لايقاف التصدع في العملة الوطنية وتداعياتها على الحياة المعيشية للفئات الفقيرة والمسحوقة وذوي الدخل المحدود من خلال التحكم في عرض النقود واتخاذ خطوات سريعة لتعزيز قيمة عملتنا الوطنية وذلك بتشديد اجراءات ضخ العملة الاجنبية وبيعها وفقا لشروط قانونية تستلزم اقتران الحصول على العملة الاجنبية مقابل استيراد سلع ومنتجات اساسية تساهم في دعم النشاط الاقتصادي كوسائل انتاج ومواد خام لا تتوفر في السوق العراقية والتي تدخل في نشاط الانتاج الصناعي والزراعي.
فمئات ملايين الدولارات التي تتدفق بصورة رسمية الى الخارج لا يقابلها سوى مستوردات سلعية رديئة وكاسدة في اسواق البلدان المجاورة كوسيلة للتغطية على تهريب المبالغ الضخمة من العملة الصعبة التي تذهب الى جيوب مافيات السوق وسراق قوت الشعب . وهو نشاط مخطط ومدبر من قبل بعض القوى الاقليمية والدولية لاضعاف العملة العراقية و تدمير الاقتصاد الوطني وإدامة الازمات القائمة .
ومع التصاعد الحاد في الأزمة السياسية الراهنة فمن المتوقع ان يشهد الدينار العراقي مزيدا من التذبذب في سعر صرفه مقابل الدولار وسوف ينعكس ذلك في صعود أسعار المواد الاستهلاكية الاساسية وايجارات المساكن والمحلات التجارية والاعمال الخدمية اليومية و سوف يؤدي الى تدهور القدرة الشرائية لدخول الفئات الفقيرة التي تعاني بالاساس من ضغوطات معيشية كثيرة.
ان الحكومة مطالبة بانتهاج سياسة مالية رشيدة قادرة على خلق التوازن الداخلي والخارجي لدعم السياسة النقدية . فالاقتصاد العراقي ما زال اقتصادا ريعيا تشكل وارداته النفطية 98% من دخله القومي, وان الاقتصاد المتين لا يقاس بمدى ملكية الدولة من المليارات من الارصدة النقدية , بل ان قوة الاقتصاد وضمان استقراره وثبات اسعار السوق تتحدد بمدى قوة وحيوية قطاعاته الانتاجية الصناعية والزراعية وقدرتها على الاكتفاء الذاتي .
أن ادارة الاحتياطات الأجنبية بكفاءة عالية تتطلب نظاما مصرفيا متطورا وقادر على حشد وتخصيص الموارد المالية بكفاءة عالية لخدمة الأغراض الانتاجية والتنموية والتصدي للازمات المالية والنقدية المحتملة. فالسياسة النقدية في العراق تواجه تحديات كبيرة كالتضخم وتذبذب الاسعار وعدم التنسيق بين السياسة النقدية والمالية و ظاهرة الدولرة في الاقتصاد.
ان تأهيل المصانع والمعامل العراقية واعادة تشغيلها واقامة المجمعات الصناعية والزراعية الضخمة وتوفير المناخ الاستثماري الرحب الجاذب للقطاع الخاص المحلي والاجنبي وانتهاج سياسة نقدية ومالية مستقلة عن التدخل الخارجي سوف يؤدي الى خلق دورة اقتصادية تساهم في زيادة الطلب على العملة العراقية وصعود الدينار العراقي امام العملات الاجنبية. فاستقرار قيمة العملة وقدرتها التنافسية احد المؤشرات الاساسية على فاعلية وصواب السياسة النقدية.