ويظلُّ حفار القبور ينأى عن القبر الجديد بين القبور الموحشات وعن الخرائب والرمال، وكان متعثرَ الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام، يرعى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئاب.. الزبير حبّة رمل في فم الصحراء ترفض البداوة وترفض التحضر في الوقت نفسه، في كل شبرٍ منه

ويظلُّ حفار القبور ينأى عن القبر الجديد بين القبور الموحشات وعن الخرائب والرمال، وكان متعثرَ الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام، يرعى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئاب..

الزبير حبّة رمل في فم الصحراء ترفض البداوة وترفض التحضر في الوقت نفسه، في كل شبرٍ منها تاريخ وذاكرة وملحمة أحيانا، مدينة ولدت من رحم الصحراء فاحتضنها الرمل وطوق حدودها.

تاريخياً تأسست مدينة (الزبير) عام (979هـ -1571م) حينما أمر السلطان العثماني (سليمان القانوني) بترميم قبر (الزبير بن العوام) لتبدأ بعد ذلك مرحلة الاستيطان وزيادة عدد السكان في هذه المدينة.

الرابط بين الشرق والغرب

كانت مدينة (الزبير) وما زالت محطة من محطات الخير فبحكم موقعها المهم أصبحت طريقا ومركزا تجاريا، يربط ما بين الشرق والغرب فكانت نقطة لانطلاق القوافل التجارية وسوقاً مهماً من أسواق البصرة التجارية عرف بسوق (المربد).

أول حاكم حكم هذه المدينة هو (الشيخ إبراهيم بن محمد الجديد). وكان لهذه المدينة سور كبير لحمايتها، يتكون من أربعة أبواب تفتح في أوقات معينة مع وجود حراسة مشددة، بني هذا السور عام (1177هـ) في عهد حاكمها (يحيى الزهيري) وهدم في الحرب العالمية الأولى عام (1914) وبقيت آثاره قائمة حتى فترة متأخرة.

سمّيت هذه المدينة بعدة تسميات منها (وادي السباع ووادي النساء) وغيرها من التسميات حتى عرفت باسمها الحالي (قضاء الزبير) نسبة للزبير بن العوام المدفون في أرضها.

"متكلي شنو فلمك"

سائق التاكسي الذي اقلني إلى الزبير من منطقة سكني وسط البصرة قطع 25 كم تقريبا، حدثني عن الموت والمقابر وما سمعه من قصص أثارت رغبتي في المزيد من القصص التي كان يرويها  له من يستأجرونه ..

سألني هل لديك قريب تود زيارته؟ قلت له تقريبا! أدهشته إجابتي التي خلطت عليه أفكاره المتواضعة حيث انه لم يفهم هل هي نعم أم لا!!

سكت ثم نظر لي باستغراب وقالها باللهجة الشعبية الدارجة "ما تكلي شنو فلمك"؟!! قلت له فلمي قبل أن تسيطر عليه ظنونه لتصل إلى أعلى مراحلها الجهنمية!!

قد لا يشكل دخول أي مقبرة قضية مهمة بالنسبة للبعض، لكن دخول مقبرة الحسن البصري في الزبير يشكل قضية بالغة الأهمية، لا لتعلق زائد بالحياة وتفاصيلها، ولا لرهبة في الموت.. لكن لشعور موجع يذكرك بأن بين ذرات التراب التي تدوس عليها، وتتخطاها بيسر وغفلة أجسادٌ لعدد كبير من الصحابة والتابعين والأولياء والأمراء والولاة والعلماء والشعراء.. تناوب الموت على طمرهم منذ سنة 14 هجرية حتى اليوم. هذا الكلام للأستاذ طالب عبد العزيز.

أقدم المقابر

على ضريح الحسن البصري وابن سيرين قرأنا الفاتحة تقول كتب التاريخ: (تعد مقبرة الحسن البصري واحدة من أقدم المقابر الإسلامية، إذ يزيد عمرها على أربعة عشر قرناً، سميت باسم قبر الحسن البصري الفقيه الزاهد المعروف الذي توفي عام 110هـ / 728م ودفن فيها، ثم توفي محمد بن سيرين مفسّر الأحلام المشهور، فدفن إلى جانب الحسن البصري وقد أكد ذلك ابن حيان المتوفى 230 م / 744م فقال: وأن قبر ابن سيرين إزاء قبر الحسن البصري). وهو مربع الشكل طول قاعدته 18-19 قدماً، وبني بالآجر وله قبّة على شكل مخروط يزينها في القمة، ويغطي المخروط ستة صفوف من المقرنصات..

ذاكرة المطر

مطر ...

مطر ...

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع،

كالحبّ، كالأطفال، كالموتى – انه المطر !

ومقلتاك تطوفان بي مع المطر.. يقول حارس المقبرة والدفان في نفس الوقت خالد عبد العزيز: أتذكر وفاة السياب عام 1964 حيث كنت طفلاً في ذلك الوقت ووالدي تكفل بدفنه، كان يوما شديد المطر مما أعاق عملية الدفن وتأخرنا في دفنه لحين توقف المطر، وكان المشيعون لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، الذين رافقوه إلى المقبرة ..

ويقول السيد خالد: يأتي للمقبرة العديد من الوفود من المغرب العربي والدول والأوربية من روسيا والصين وفرنسا، يسألون عن قبر السياب، عن محمود البريكان، عن عبد الغفار الأخرس وغيرهم ومن رجالات الفكر والسياسة التي تضمهم هذه المقبرة .

غضب فرنسي

على حال السياب

ويتذكر عبد العزيز قائلا: احد الفرنسيين وضع يده على قبر السياب واخذ يضرب بها بالقبر وهو يردد "هذا الشاعر الذي وصل شعره وشهرته لنا نحن في فرنسا وجميع دول العالم قبره بهذا الشكل وبعدم المبالاة ."...

مقبرة الشاعر عبد الغفار الأخرس المعروف في أوساط بغداد الأدبية، وأصله من مدينة الموصل في شمال العراق، وكان شعره يتميز بالسمو والرقة، وأخذ فنون الأدب والعلم على يد أبو الثناء محمود الآلوسي مفتي بغداد، كما أخذ عن غيره من العلماء الأعلام وكان معاصرا للشاعر عبد الباقي العمري، وله مناقضات مدونة ومعروفة مع الشاعر الأديب عمر بن رمضان الهيتي.

وهناك أيضاً مقبرة الوالي العثماني علاء الدين الآي بيك، وهي عبارة عن حيث قبة من الآجر حين تدخلها تشاهد قبوراً مندرسة وقد تحولت الى أكوام من الحجر الحزين الذي تخلى عن الرفات التي كانت يوما تحته بفعل الزمن والإهمال.

مقبرة أسرة النقيب

وخلف شجرة كبيرة أضرحة أسرة النقيب الأشراف، وأيضاً ولاة الزبير والبصرة، من أسرة آل الزهير وآل إبراهيم، وأربع شخصيات من حكومة عبد الرحمن النقيب وهم : عبد اللطيف باشا المنديل وقاسم باشا الزهير ومحمود باشا آل عبد الواحد والسيد طالب النقيب.

مطرب المقام القبانجي يجدد قبر الأخرس

توفي الأديب الشاعر عبد الغفار الأخرس عام 1290هـ/ 1872م، ودفن في مقبرة الحسن البصري المسماة مقبرة الزبير في مدينة البصرة.

وإكراماً لذكراه جدد ضريحه مطرب المقام الأول، البغدادي محمد القبانجي عام1945 ، الذي انشد من شعر الأخرس قصيدة جميلة..

وفي ركن من هذه المقبرة يوجد قبر وضريح الشيخ محمد النبهاني، الذي قدم من البحرين واستقر فيها مع بعض أبناء أسرته، وهو صاحب كتاب «التحفة النبهانية»، وقد سميت إحدى المحلات الصغيرة في قضاء الزبير باسمه (النبهانية).

وهنا أشاهد قبر نائب البصرة سليمان فيضي صاحب كتاب «البصرة العظمى»، وهو من مواليد الموصل عام 1885 وتوفي في البصرة عام 1951، وليس ببعيد عنه قبر دارس اليوم هو للقاضي أحمد نور الدين الأنصاري صاحب كتاب «النصرة في أخبار البصرة»، وهو موصلي الأصل أيضا.

قبر الشاعر أبو معيشي !

ولد الشاعر الفطري أبو معيشي  في منطقة (نجد) عام 1866م وهاجر مع عائلته من هناك إلى قضاء سوق الشيوخ، حيث استقر فيها وكان في عامه الرابع فعاش حياته في المدينة أمياً دون أن يتعلم القراءة والكتابة وبعد أن انشد أبياته الأولى في بواكير شبابه أطلق عليه شعراء المدينة (الجوهرة السوداء) نسبة لبشرته السوداء وعاش عمراً طويلا تجاوز المائة عام، عاصر خلالها أكثر من جيل من الشعراء والأدباء وكان يحظى باحترام وتقدير واعتزاز الجميع وخاصة الشعراء الذين عاصروه وعاشوا معه وبالرغم من انه لا يجيد القراءة والكتابة نهائيا، إلا انه كان يستخدم في شعره بعض المفردات الفصيحة نتيجة تأثره بالبيئة البدوية الصحراوية .

له مساجلات كثيرة مع الكثير من الشعراء ويعد واحداً من الأعلام البارزين في "الابوذيه" التي اختص بها منفردا عن سواه، وافاه الأجل عام 1978م بعد أن ترك نتاجا هائلا من شعر "الابوذيه".

البريكان الذي تنبأ بطريقة موته !!

قصيدة مدهشة كتبها الشاعر محمود البريكان قبل موته بأكثر من عشرين سنة وكأنه يضع سيناريو لعملية اغتياله المفجع حيث يقول في قصيدته (الطارق) التي كتبها عام 1984:

على البابِ نقرٌ خفيف

على البابِ نقرٌ بصوتٍ خفيف

ولكن شديدَ الوضوح

يعاود ليلاً.. أراقبه، أتوقّعُه ليلةً بعد ليلة

أُصيْح إليه بإيقَاعِه المتماثل

يَعلو قليلاً قليلا

ويخفت

أفتحُ بابي

وليس هناك أحد

من الطارق المتخفّي؟ تُرى؟

شبح عائد من ظلام المقابر؟

ضحيةُ ماضٍ مضى وحياة خلت

أنتَ تطلبُ النار؟

روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها

أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟

رسول من الغيب يحمل لي دعوةً غامضة

ومهراً لأجلِ الرحيل؟!

هو محمود داود سليمان البريكان، ولد في الزبير، بالبصرة عام 1931 لأبويين نجديين. يعود نسبه إلى شمّر، وكان والده تاجر قماش معروفاً في البصرة والكويت. للبريكان ستة إخوة ترتيبه الثاني بينهم. تأثّر البريكان في صباه بجدّهِ لأمّه واسمه أحمد الخال الذي كانت له مكتبة خاصة كبيرة تحتوي على مجلات ودوريات وكتب ومراجع مما جعل محمود يتأثر بهذه المكتبة وعرف طريق الكتاب من خلال تلك المكتبة الكبيرة.

درس في كلية الحقوق وتخرج منها، عمل مدرساً للغة العربية في العراق والكويت. كان من الشعراء الرواد والمجددين في الشعر الحديث لكن انعزاله وزهده وبساطته وبعده عن النشر كانت سبباً في ابتعاده عن الأضواء. له ديوان بعنوان محمود البريكان.

توفي البريكان مقتولاً بدافع السرقة عام 2002 وهو اعزل في بيته ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.

يوم بارد أمام قبر مؤلف رائحة الشتاء!

قد تكون المصادفة وحدها هي التي جاءت بنا في يوم بارد من كانون الثاني نقرأ الفاتحة على أحدث قبر من قبور العمالقة في الفكر والسياسة والتاريخ... انه قبر القاص والروائي محمود عبد الوهاب، قد يذكرنا بمجموعته الشعرية الرائعة (رائحة الشتاء).

محمود عبد الوهاب قاص وروائي ومترجم وناقد عراقي يعتبر من رواد القصة القصيرة في العراق وُلد في بغداد عام 1929 وتوفي في البصرة عام 2011.

تخرج خلال الخمسينيات من كلية الآداب في جامعة بغداد وعمل في البصرة لسنوات كمدرس ومدير لمدرسة ثم مشرفاً تربوياً، وقد فصل من وظيفته أكثر من مرة وتعرض للسجن لأسباب سياسية.

ترجم عام 1955 القصص الآتية: 1. للكاتب إرنست همنغواي ترجم القصص: "قطة في المطر، و"المخيم الهندي"، و"العجوز على الجسر". 2. للكاتب إركسين كالدويل ترجم القصص الآتية: "هروب"، و"سارق الحصان"، و"الصورة". 3 .لـلكاتب ألفونس دوديه ترجم قصة "الدرس الأخير". 4. لـلكاتب ألبرتو مورافيا ترجم قصة "سائق عربة الشحن."

من أعماله المشهورة مجموعة قصصية بعنوان "رائحة الشتاء" وكتاب نقدي بعنوان "ثريا النص" كثيراً ما يُستشهد بهما كأعمال فريدة ومهمة مثلما فعلوا في مركز دراسات البصرة في كلية الآداب، جامعة البصرة حين تناولوا هذين العملين بالدراسة... فارق الحياة في مدينة البصرة، عن عمر ناهز الـ80 عاماً.