انسحب الجيش من الفلوجة .. هذا ما جاء في الأخبار أمس. ولماذا أُرسل الجيش إلى الفلوجة أصلاً؟ لماذا صدرت اليه الأوامر بالاقتراب من ساحات التظاهر والاعتصام الفائرة بالغضب والحنق هناك؟
انه اللعب بالنار .. لعب بالغ الخطورة .. إرسال الجيش الى ساحات التظاهر والاعتصام في الفلوجة، كما إرساله من قبل الى المناطق المتنازع عليها من دون الترتيب والتنسيق مع القوى المحلية، لعب خطير بالنار.. وإعطاء الأوامر بالاقتراب كثيراً من المتظاهرين والمعتصمين وإطلاق الرصاص الحي عليهم، هو لعب بالنار الى أقصى الحدود.
الحنكة من الصفات الأساسية لرجل الدولة الناجح.. والحنكة هي ما يدفع به لتطويق المشكلة أو الأزمة التي تواجهه وتحييد عناصرها الداخلية والعوامل الخارجية المؤثرة فيها، تمهيداً لتفكيكها ومن ثم حلها.. رجل الدولة، مدنياً كان أم عسكرياً، لا يدفع بالأزمة إلى الانفجار، وبخاصة إذا ما كانت من النوع الذي يثير أو يمكن أن يثير فتنة دينية أو طائفية أو قومية.
ارسال الجيش الى الفلوجة لم يكن خطوة حكيمة لصاحب قرار محنك. وهذا ما حصل مثيل له منذ أشهر عندما أُرسلت قوات من الجيش الى مشارف طوزخرماتو، وهي منطقة أزمة .. وهذا ما حصل مثيل له أيضاً منذ سنتين عندما أُرسلت قوات من الجيش الى ساحات التظاهر في بغداد والبصرة والموصل وسواها لمنع الناس من التظاهر السلمي لاعلان مطالبهم التي وصفها رئيس الحكومة لاحقاً بأنها كانت مشروعة ودستورية ووعد بتحقيقها.. ولم يحققها.
رئيس الوزراء ومقربون منه اتهموا فلول البعث والقاعدة بإثارة التظاهرات والاعتصامات في المحافظات الغربية او الدخول على خطها.. هذا الكلام لا غبار عليه، فالواضح أن بعثيين وقاعديين انتشروا بكثافة بين المتظاهرين والمعتصمين ورفعوا راياتهم وشعاراتهم. لكن الجيش الذي أُرسل الى الفلوجة لم يلاحق البعثيين والقاعديين للقبض عليهم وتقديمهم الى العدالة .. انه اطلق النار عشوائياً، أو انجرّ الى استفزاز فأطلق النار عشوائياً ما أسفر عن مقتل عدد من المتظاهرين وجرح عشرات الآخرين .. أي ان الجيش خلق لنفسه أعداءً جدداً في الفلوجة من دون ان يحقق هدفاً ضد اعدائه، البعثيين والقاعديين.
وراء ذلك بطبيعة الحال نقصان في حنكة الذين اتخذوا القرار بإرسال الجيش الى الفلوجة.
من البداية كانت الحنكة تقتضي أن ترسل الحكومة قوات سياسية وان تعمل سياسياً على عزل المتظاهرين والمعتصمين عمن دخل في صفوفهم لاحقاً .. وقبل ذلك كانت الحنكة تقتضي ألا تنتهج الحكومة سياسات تدفع بالأمور إلى حافة الانفجار.
الحنكة لا تُباع ولا تُشترى.. إنها تنشأ وتتطور في الرؤوس والقلوب.