تتعرّض السلطة القضائية إلى حملة تشكيك تتزايد منابرها، وترتفع نبرتها كلما واجهت العملية السياسية استحقاقاً دستورياً إشكالياً، أو صداماً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. ويتخذ التشكيك طابعا قاطعاً في الحالات التي يتعلق الصدام بخلافٍ بين البرلمان ورئي
تتعرّض السلطة القضائية إلى حملة تشكيك تتزايد منابرها، وترتفع نبرتها كلما واجهت العملية السياسية استحقاقاً دستورياً إشكالياً، أو صداماً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. ويتخذ التشكيك طابعا قاطعاً في الحالات التي يتعلق الصدام بخلافٍ بين البرلمان ورئيس مجلس الوزراء وطاقمه المتنفذ من الوزراء والمسؤولين البارزين.
ومن حيث الشكل، فإن تبريرات مجلس القضاء الأعلى في مثل هذه الحالات تستند إلى مواد دستورية بعينها، وتراعي الشكليات القانونية دون أن تأخذ بالاعتبار الإشكاليات "الخُلقية" للدستور، من حيث المبنى والصياغات المقحمة فيه على خلفية التوافقات المتضادة، ما أدى بالعديد من تركيباته إلى أن تكون "حمّالة أوجه".
إن التشكيك بالقضاء، حين يصل إلى السلطة التشريعية ويتحول إلى اتهام صريحٍ لأعلى سلطة قضائية بشبهة التواطؤ لصالح انحرافاتٍ سياسية خطيرة، وارتكاباتٍ تمس سلامة الدولة "ناقصة البنيان"، ووجهة تطور المسيرة الديمقراطية، فان ذلك يشكل تحذيراً من عيارٍ ثقيلٍ يتطلب وقفة جدية من أولي الأمر المختلفين.
وابتداءً فأنني سأتجنّب التشكيك لأن الانسياق في ادعاءاته، ترويجٌ لمقدمات انهيار الدولة او للعملية السياسية التي تشكلت كقاعدة لاعادة بناء هذه الدولة. لكنني لا استطيع ان امتنع عن استعراض بعض المظاهر التي يتقول بها المتشككون، وترد في محاججاتهم كبراهين على صحة ادعاءاتهم وطعوناتهم للقضاء ونزاهة قراراته وانعدام استقلاليته، بل وخضوعه كلياً لاوامر من رأس الحكومة.
وقد تصاعد الجدل حول هذا الموضوع، خلال الفترة الماضية، مع قرار مجلس النواب باستجواب رئيس مجلس الوزراء وتهديد الأخير بحل البرلمان، وما يقال الآن بعد التصويت بتحديد ولايتين للرئاسات الثلاث، والتلويح باحتمال نقضه من المحكمة الاتحادية. ويكاد المتشككون أن يجزموا بان ضوءاً اخضر قد حصل عليه المالكي من القضاء بالشرعية الدستورية لحل البرلمان، كذلك أُوحيَ لبعضٍ من مريديه بتعطيل استجوابه، كما جرى التعامل مع حالات وزراء من عشيرته السياسية والحزبية.
وإذا كان الدستور من وجهة نظر القضاء الأعلى في البلاد مصدراً لا ينازع للسلطات، وهذا صحيح دون شك، فلماذا تظل مظاهر متعارضة كلياً مع منطوقه، بمنأى عن المساءلة والمتابعة والبحث في سبل تطويقها؟
وتبرز بين مظاهر كثيرة، قضية ملفات أمنية وأخرى متصلة بالفساد يلّوح بها رئيس الحكومة ضد خصومه، وهذه مخالفة صريحة يطالها القانون، لأنها أولاً تؤشر لتدخل في الشأن القضائي، وثانياً لأنها تشي بابتزاز سياسي، وثالثاً لأنها فعل تعمد في إخفاء وثائق جرمية تتعلق بأمن الدولة وسلامة المواطنين وثرواتهم المنهوبة.
وفي موردٍ آخر، تثار تساؤلات حول سكوت القضاء على الخروقات الفاضحة للدستور، كإقحام الجيش والقوات المسلحة في الصراع السياسي والمنازعات بين فرقاء العملية السياسية، وهذا خرقٌ يشكل تهديداً خطيراً للمصالح الوطنية العليا، وتدنيساً لسمعة الجيش الذي يفترض فيه أن يبقى قوياً بدعم الشعب واحتضانه كسور للوطن ودعامة لحماية سيادته واستقلاله.
وتاريخ القضاء في العالم لا يقتصر على عرض لشكل الدساتير والقوانين الوضعية ومكانتها في إدارة الحكم والمعاملات بين المتقاضين، وإنما يعتمد إبراز الاجتهاد في الأحكام، والأخذ بالجوهر والمصلحة عند النطق بالحكم. ويصحّ هذا النهج، في كل ما له علاقة بمصائر الدول والأمم والشعوب، وما يعيق أو يطلق الآليات الديمقراطية في ترسيخ أسس الدولة الناشئة وإقامة مؤسساتها الضامنة.
ولو أخذنا، على سبيل المثال، الحالة الخاصة بالنزوع الفردي لحل البرلمان،من قبل رئيس مجلس الوزراء ، وبقصد يستهدف بوضوح وفي الجوهر إلغاء السيرورة الديمقراطية، وتكريس الانفراد بالسلطة وجر البلاد الى الفوضى السياسية، فهل يكتفي القضاء بالمدلولات المباشرة الشكلية للمواد الدستورية، خصوصاً إذا كانت ارادة الأمة المتجسدة في الأغلبية المطلقة من مجلس النواب ترى خلاف ذلك؟
واذا ما توقفنا عند قرار تحديد الرئاسات الثلاث الذي صوت البرلمان بأكثريته على الأخذ به، منطلقاً من روح تجربة العملية السياسية، وظهور نزعات متعارضة مع جوهر النظام الديمقراطي في سلوك الحاكم، مما يشكل تهديدا لمستقبله، فهل لا يرى القضاء عند بحث النظر في دستورية القرار أو تعارضه معه ، غير المواد التي تفنده لا غير.؟
ان الجوهري في مبنى الدستور في مثل هذه الحالات، هو الاجتهاد الجريء والأخذ بكل ما من شأنه حماية النظام الديمقراطي، والحفاظ على الأمن الوطني، وتجنب كل تدبير أو إجراء دستوري شكلي يقود إلى الانحدار نحو تفكك الدولة والفراغ السياسي، واغتصاب السلطة من أي فرد أو حزب أو مكون.
قد لا يروق هذا التفسير لمن لا يرى في الدستور غير مواده الجامدة، ولا يستسيغ الأخذ إلا بأحادية منطقه الشكلي المجرد دون ترابط بين جدلية الشكل مع الجوهر، والظروف والمستجدات التي يتفاعل الدستور في محيطهما.
في سابقة تاريخية دالة، كأسمى ما تكون عليه الدلالة، رفض تشرشل رئيس الوزراء البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية، الاستجابة لطلب من قيادة القوات الحربية بإيقاف قرار محكمة بريطانية يقضي بنقل مطار حربي إلى جهة أخرى، بناء على طلب مديرة مدرسة ، لما يسببه وجوده من إزعاج وخطر على التلاميذ. ورغم تحذير قيادة القوات بأن هذا النقل اذا ما تم فانه قد يُضعف الدفاعات الجوية ضد العدو.
كان جواب تشرشل حاسماً إذ قال:
"خير لنا أن تخسر بريطانيا الحرب من أن أتدخّل لإيقاف تنفيذ حكم قضائي".!
فأين القضاء عندنا من الدفاع عن استقلاله وحرمته، في مواجهة التدخل السافر لعتاة السلطة التنفيذية والمتنفذين في دولتنا المتآكلة.
إن ظرفاً معقداً، ومرحلة سياسية حُبلى بالاستعصاءات والتناقضات، ودولة تتعثر في عملية استكمال بنائها، وحراكاً في كل الاتجاهات، تتطلب قضاءً نزيهاً عادلاً كامل الاستقلال.
وغياب هذا إعلانٌ مبكرٌ بموتٍ سريري غير معلن..!
جميع التعليقات 1
ابو علي الزيدي
لا اعتقد ان القضاءيصادق وينحاز الى الديمقراطيه وفيه مدحت المحمود لئن هذا الشخص تربى وترعر في ظل الدكتاتوريه وقراراته شاهدة على ذلك بالأنحياز التام لسلطة المالكي.ولكن تبقى هناك فسحة من الامل لدى البرلمان اذا حدث النقض هو الأستجواب ورفع الثقه مع