تغيير الحاكم لن يؤدي الى تحول في حياتنا ما لم نطرح سؤال التعايش والتسامح. جذور ازمة الحكم التي تسمح للسلطان بالتلاعب بعقول جزء من الجمهور، تعود الى تضرر قيم التسامح في مجتمعنا ونقص الحداثة أيضاً. وفي غمرة الاسئلة حول مصائر السياسة، يستفهم الضيوف الاجانب عن تسامح المجتمع التعددي قرب اكبر حقول نفط العراق. ولزام عليّ أن أجيب.
ماذا في وسعك ان تجيب حين يسألك "رجال شيكاغو الاقوياء" عن وضع التسامح والتعايش في العراق والبصرة هذه الايام؟ ورغم انني متهم بالتشاؤم، الا ان التفاؤل يكون حليفي دوما حين اجول ببصري لأرى سفن الشاطئ قرب شط العرب وأجد رجالا ونساء من كل الاجناس في قاعات فنادق الدرجة الاولى وقد جاؤوا لاكتشاف الفرص في عاصمة البحر والنفط والصناعة العراقية بتاريخ ملاحي يعبر حقبة الاسلام الى الساسانيين والاسكندر المقدوني.
المناسبة كانت زيارة قام بها الى البصرة في اول ايام السنة، توماس بريتزكر وهو سليل عائلة ثرية في شيكاغو يملك واحدة من ابرز شركات النقل البحري "ان دبليو اي اتش" ويرعى معهد فنون وجائزة معمارية كبرى هناك ويوصف بأنه من بين اقوى ١٠٠ شخصية في شيكاغو.
اما الزائر الثاني فهو بيل ديلي الذي ادار مكتب اوباما وكان وزير مالية كلينتون ويحلم اليوم باسترداد منصب حاكم شيكاغو (كمهنة تتوارثها العائلة). الرجلان "صديقان منذ الطفولة" لكن الاول جمهوريّ ينحاز لاعتراضاتي على طريقة اوباما في التعامل مع العراق، والثاني ديمقراطي يدافع عن اوباما حتى آخر لحظة. لكن المسألة هي استفهام مشترك يطرحانه عن حال البصرة اليوم.
وكعادتي حين أحاول الإجابة على هذه الاستفهامات، ألجأ للنماذج التاريخية، وهذه المرة رحت استعين برحالة من فينيسيا جاء إلى البصرة يوم كان البرتغاليون يهيمنون على مضيق هرمز في القرن ١٧، وسجل ملاحظات موجزة لكنها عميقة جدا.
التاجر والرحالة كاسبارو بالبي دخل البصرة وأبدى إعجابه بالتنوع الثقافي والديني في المدينة المسلمة، حيث كانت معابد اليهود والمسيحيين والهندوس تنتشر قرب الميناء، الا ان واليا تركيا وصل بشكل مفاجئ الى البصرة قادما من تركيا فأصيب بذهول حين رأى هندوسا يمارسون طقوسهم وهو القادم من اسلامبول عاصمة الإسلام المتزمتة يومذاك، فاتخذ قرارا متسرعا وأمر بذبح ١٠ هندوس في المعبد وسط البصرة. وقبل ان ينتفض ضد الحاكم مئات البحارة الهندوس المشغولين بالعمل على متن السفن، عقد شاهبندر التجار ورجال السوق والبحر اجتماعا طارئا وأمروا الوالي بمغادرة البصرة فورا، وكتبوا لاسطنبول ان تبعث اليهم واليا يتفهم التنوع الثقافي لمركز تجارة دولية كالبصرة.
في تلك الايام يا رجال شيكاغو الاقوياء، كانت روح المدينة قوية، واثقة من نفسها وتدافع عن القيم المتسامحة. غير ان الحروب الكثيرة وتسلط الاستبداد طرد اهم عوائل الميناء وجعل العراق والبصرة في اضعف لحظات التاريخ وأصعبها. والضعفاء لا يحمون قيمهم بشكل جيد، كما تقول لنا آلهة التاريخ.
جلس رجال شيكاغو للحديث معنا، وسط حي تاريخي في البصرة، ولد فيه امراء وباشوات بينهم العراقي البصري الاسرائيلي لاحقا، الحاخام عافوديا يوسف الاب الروحي الحالي لحزب شاس.
الا ان كل هذا التنوع تعرض لضربات قاسية، ورغم ان رجال الاعمال الاجانب يشترون الكحول سرا من الحي المسيحي في البصرة ويدخلونه علنا الى فنادقها الراقية، الا ان الليبراليين هناك خاضعون قسرا لبعض قيود التيار المتشدد.
ولكن ولكي لا تيأسوا يا رجال شيكاغو فإن وجودكم هنا واستثماراتكم، ستشجع البصرة على استعادة ذاتها المنفتحة والتعددية. ان وجودكم يقوم بتذكير البصرة بسندبادها وبحرها الضائع.
والدليل على ذلك انكم امام مدينة لا تزال مختلفة عن كل ما هو خارج بغداد. ففي الاعياد التي يحييها مليار مسلم حول العالم، تظل البصرة آخر مدينة عراقية تنام. وفي كل عيد احرص على اصطحاب أصدقائي من كل المدن، كي يروا مشهد كرنفال يبقى حتى شروق الشمس على كورنيش العشار، مركز المدينة، يحييه راقصون وعازفو إيقاع بصريون من أصول أفريقية متمسكين بإيقاع بحري معروف من عدن ومسقط حتى بومبي وشيراز. حينها يبدأ الأصدقاء بتفقد عوائلهم فيجدون أن بغداد وأربيل نائمتان بينما ظل أفارقة البصرة وشبابها من كل الاعراق يغنون للعود والقيثار و"سفن الهوى".
السفير الامريكي السابق في العراق جيمس جيفري، سألته: كيف تنسحب جيوش امريكا وتترك عمالقة البترول لوحدهم في البصرة. فأجابني بحماس: إنها أكثر مكان آمن في العراق، هناك فقط اقود سيارتي لوحدي على الكورنيش.
ان الملياردير الأمريكي توم، يكشف لي ان دراسات مستشاريه تفيد بان البصرة هي اكثر مكان يتقبل الأجانب، وانا اقول له ان البصرة هي اكثر مكان يوجد فيه كبار سن يتكلمون بطلاقة خمس لغات أو ست، اثر خبرتهم في الميناء.
التشدد الذي كانت تمثله الميليشيات اخذ في التراجع، وحين غنى هيبت البدر وهو مطرب بغدادي شاب، في شيراتون البصرة، سأل متشددون زعيم التيار الصدري: ماذا نفعل؟ فأجابهم بحزم: اللجوء للعنف جهل، اتركوا الحكومة تتحمل المسؤولية.
ان هذا الجواب خطوة للعراق وللبصرة كي يرحبوا بالبحر وأهله مرة أخرى، ويستقبلوا استثمارات آسيا وأمريكا، وهو جواب يرسم حلما من شيكاغو قرب شجرة في البصرة تربطها الحكايات القديمة الدافئة، بجنة عدن حيث نزل آدم وحواء، كما يرسم لي فكرة مقال آخر عن تحولات الزعيم الشاب مقتدى الصدر، سأحرص على كتابته جوابا مخصصا لأصدقائي الناطقين بالانكليزية ممن يهتمون بأخبار المال والسياسة في العراق.
"تسامح البصرة" وسط سياسة متحولة
[post-views]
نشر في: 27 يناير, 2013: 08:00 م
جميع التعليقات 1
آريين آمد
بكلمة واحدة (روعة).