في النصف الثاني من عقد التسعينيات كنت أدرس العلوم الدينية في حوزة النجف، وأيامها كان الشهيد محمد محمد صادق الصدر قد فجّر صلاة الجمعة بوجه صدام وأوقعه في أحد أصعب مآزق حياته، فمن جهة، هي صلاة لا يمكن منعها، وهي من جهة أخرى تشهد انتقادات واحتجاجات لم يسبق لذلك النظام أن واجه مثلها.. وفي تلك الأيام وَجَّه السيد الصدر -في سياق حملة التصعيد التي قادهاـ انتقادات شديدة ضد ما اسماه "بالحوزة الصامتة" كطرف مضاد "للحوزة الناطقة" التي يمثلها ويقودها هو. وكان النصيب الأوفر من تلك الانتقادات موجه للسيد السيستاني. وكنت، من ضمن كثيرين، أؤمن بأن هذا الرجل يمثل عقبة بوجه محاولات الخلاص من صدام، فلم يكن مقبولاً عندنا أي خطاب مهادن أو مسالم، كنا نبحث عن مقاتل يقف أمامنا ويقودنا نحو المعركة، أي معركة كانت، المهم أن نتخلص من شعورنا بالهزيمة أمام الطغيان.
أراجع هذه التفاصيل الآن احتراماً للموقف الحكيم الذي وقفه السيد السيستاني من احتجاجات الأنبار، فمع أن هذه الاحتجاجات شهدت تشويشات طائفية حاولت أن تحرفها عن مسارها، ومع أن هذه التشويشات شجعت الحكومة على اتهام جميع المحتجين بالسعي لتقويض استقرار البلد، ومع أن هذا الاتهام اقنع الكثيرين، إلا أن مرجعية السيستاني رفضت، من جديد، الانسياق وراء هذا التطبيل، وكعادتها تعاملت مع الموقف الحساس بحكمة يخشع أمامها الأعداء قبل الأصدقاء.
أيام صدام وعندما كنت ثورياً كنت أكره الخط الحوزوي الذي تمثله مرجعية السيستاني، وكنت أعتقد بأنه خط تراجعي مهادن للسلطان، ولا يبحث إلا عن ضمان أمانه وتلبية مصالحة الشخصية، لكنني ومنذ تغييرات 2003 وإلى الآن أرصد مواقف هذه الخط المرجعي، فلا اجدها إلا مواقف حكيمة، تقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تتدخل إلا لمواجهة أزمة أو قمعِ "مُتَعَفْرت".. فقد حاوَلَت بعض التيارات الدينية الشيعية أن تدخلها في معركة ضد النظام السياسي الجديد، بحجة مقاومة المحتل، لكنها أبت إلا دعم هذا النظام، مع أنه علماني ويتأسس تحت الاحتلال، وهذا موقف حكيم ينم عن نظرة ثاقبة. وها هي اليوم ترفض دعم الحكومة "الشيعية" ضد المحتجين "السنة" على الرغم من أن الحكومة حاولت إقناعها بأن وراء هذه الاحتجاجات غايات طائفية ممولة من دول الإقليم السني. وهذا موقف آخر يستحق الاحترام.
أريد أن أقول بأنني كنت ثورياً فيما مضى، والثوري لا يجد في قاموسه أي معنى لكلمة "حكمة" لذلك لم أفهم غايات الموقف الذي وقفه السيستاني، ومن قبله الخوئي، من نظام صدام.. لكنني الآن اشكرهما بشدة أنهما أنقذا أرواح الآلاف المؤلفة من حرائق ثورات كان يمكن لها أن تأتي على كل شيء.
جميع التعليقات 3
صباح
انى اتمنى ان تنظر بعين بصيرة وتسمع بأذن سميعة ..واراك تخطئ نفسك عن مواقفك الثورية السابقة وهذا شأن خاص بك ..لعلك نسيت عندماذُبحت الناس على طريق اللطيفية وغيرها والجميع صامتون كصمت القبور بل نائمون بل خائفون الا رجال قليل خلقوا من اجل الشهيد الصدر كما هو ق
علي كاظم
السلام عليكم , عجيب ما تقوله يا اخ سعدون , فهل اصبح السكوت على جرائم صدام بحق العراقيين جميعا حكمه ؟هل سكوت السستاني وقبله السيد الخوئي على محرقة العراقيين في سنة 1991 يعتبر حكمة ؟ واذا لم ينتفض المرجع او رجل الدين بوجه الظلم والظالمين بحكم تعاليم الدين ا
هيفاء
تحية طيبة اود اسال الزميل سعدون هل حضرتك مستمر بالكتابة في صحيفة الزمان ام لا ... تحياتي