TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الربيع العراقي المختلف

الربيع العراقي المختلف

نشر في: 29 يناير, 2013: 08:00 م

قبل الخوض في موضوع هذا المقال، أريد ان أجيب بسرعة على تساؤل طرحه الأصدقاء في فيسبوك مفاده: ما قيمة ان ننظم حملة لإقالة السيدين مدحت المحمود ومحمد عبد الجبار الشبوط، بينما يمكن للسلطان ان يأتي بنماذج تشبههما يقومان بخدمته وتسويغ نزواته في التسلط والاستبداد.
ان الامر لا يتعلق بشخص السادة المذكورين وأشباههم من موظفي الدولة الذين لم يجرؤوا على تقييد السلطان بل استسلموا لرغباته، ولكن الغاية من تنظيم حملة لمحاسبتهما على ضياع الكثير من العدالة في القضاء، وضياع الكثير من الحقيقة في إعلام الدولة، هو تأسيس تقليد جديد تحتاجه التعددية السياسية لحماية التشارك المسؤول ومنع ظهور الدكتاتور. وهذا التقليد يؤسس لقواعد مراقبة ومحاسبة تجعل كل من يأتي خلفا للمحمود والشبوط وكل شاغلي المناصب الحساسة، يحسبون ألف حساب قبل ان ينفذوا رغبات الحاكم، ليدركوا ان هناك مجتمعا مدنيا يمكنه إسقاطهم لو نقلوا الولاء من الدولة التعددية الى الحاكم المشتهي للفردية. وليدركوا ان هناك برلمانا قادرا على محاسبتهم وخلعهم. ولو شعر الشبوط والمحمود بوجود تحرك لمراكز القوى هذه لما تمادوا في الاستسلام لشهوات السلطان.
ان نجاح الحراك المدني في الضغط لمراجعة النظام القضائي ومعاقبة رأسه، ومراجعة الوضع المخجل للصحافة الممولة من الدولة والموالية للسلطان وتغيير رأسها، سيثبت قوة أنصار التعدد والشراكة المسؤولة والمجتمع المدني، على حماية العراق من "حريق الرايخ" وخطر إعادة البلاد لحقبة الضياع في رغائب ونزوات حاكم يتخيل انه قوي ومنقذ ومخلص وبطل قادم من الملاحم لهداية الأمة. ولذلك فإن شباب الفيسبوك سيواصلون حراكهم لمطالبة كل مراكز القوى بالعمل لإصلاح وضع العدالة والحقيقية اللذين عبث بهما الحاكم المشتهي للتفرد.
وفي هذا السياق فإن وضع البلاد منذ ٢٥ شباط ٢٠١١ يعني إن هناك اطرافا جماهيرية وسياسية تبحث عن تغيير واصلاح عميق. ولذلك فإننا وخلال الاسابيع الماضية لم نعد مجرد بلد مرشح للدخول في نادي بلدان الربيع العربي، بل في الواقع فإن العراق دخل هذا النادي بأكثر من اعتبار. ولكن في الوقت نفسه فإن هذا الربيع يختلف عن كل انواع التحول التي شهدتها باقي بلدان المنطقة من نواح عدة.
كان اهل بلدان الربيع مضطرين الى الاطاحة بأنظمتهم السياسية كي يطلقوا العنان لقطار التغيير بالعودة الى الحركة على سكة الزمن بعد عقود من الجمود السياسي. ولذلك فإنهم ما زالوا امام احتمالات سوداء لم يعتادوا عليها، ووصلوا احيانا الى مرحلة الخراب الاسود كما في النموذج السوري.
ولاشك اننا في العراق امام سيناريوهات سوداء، بل ان وضعنا الحالي فيه جوانب سوداء ومخزية بما فيه الكفاية، لكننا نختلف عن الربيع العربي بامتلاكنا الحد الادنى من الشرعية الدستورية ومراكز القوى التي نجحت في منع السيد نوري المالكي من اعلان نفسه حاكما مطلقا و"إحراق الرايخ" العراقي.
لقد رأينا خلال الاعوام الثلاثة الماضية ان ضغوط الخارج الإقليمي والدولي نجحت في منح السيد المالكي ولاية ثانية على خلاف رغبة الأكثرية السياسية. لكنها أثبتت أن الاكثرية المعارضة لنهج المالكي في إدارة البلاد، نجحت في تطويق خطره إلى حد بعيد، وهي تطلق عملية مراجعة لقواعد اللعبة يمكنها أن تقدم لنا ضمانات بعدم الانزلاق نحو مشاهد الدم والخراب التي حدثت في بلدان الربيع العربي، وتتمسك في نفس الوقت بنسختنا الخاصة من الربيع السياسي والتغيير.
ان هناك من يقول للعراقيين: عليكم القبول بالمالكي بكل مساوئه وإلا فسيحصل لكم ما حصل للسوريين حين قرروا تغيير الوضع. وعليكم الوقوف ضد اي "ربيع عراقي" لان خصوم المالكي يريدون تخريب البلاد. لكن العراقيين المؤمنين بالتغيير يقولون لهؤلاء: لقد مر علينا خراب رهيب حين تخلصنا من صدام حسين، وقد دفعنا الضريبة هذه إصرارا على التخلص من الاستبداد. لقد مر علينا خريف طويل بقي عشرة اعوام منذ ٢٠٠٣، وعلينا ان نعيد كتابة قواعد اللعبة للسنوات العشرة المقبلة كي ندخل ربيعا تدعمه شرعية دستورية يجري تطويرها، وتعددية سياسية منعت الفريق السياسي والعسكري للمالكي من الاستيلاء على الدولة.
ان ربيع العراق يتمسك بالشرعية التعددية التي سالت دماؤنا لكي يجري إقرارها. إن البرلمان الذي يشتمه الكثير منا يبقى صالون الشرعية الذي نلجأ إليه ونعمل معا لاصلاح وضعه وتعزيز دوره. وكل ربيع عراقي يحمل رياح التغيير، سيكون بطعم المراجعة التي يشترك فيها الجميع وتمر عبر البرلمان والحياة الدستورية. إن أداء اطراف "أربيل النجف" مرورا بالرمادي او من اسميهم "تحالف ١٩ أيار" منحنا املا كبيرا بأن زعماء "١٩ أيار" يتعلمون من أخطاء "الخريف العراقي" ويتمسكون اليوم بإدارة الخلاف السياسي والطائفي بشكل اقل كلفة مما مضى. لقد أثبتت لنا مواقفهم من مظاهرات المنطقة الغربية ان منع البلد من الانزلاق أمر ممكن. وان الاصلاح الكبير يبدأ كربيع لا ينتهي بانزلاق نحو الهاوية. لكن الخطر الوحيد هو الحاكم المشتهي للاستبداد، والذي اثبت لنا انه مستعد لتوريطنا بمغامرات قاتلة كي يحتفظ بعرشه او "كرسيه الهزاز". ونراهن على ما تراكم من حكمة وخبرة بين خصومه لمنع هذا السيناريو الأسود.
وأختم المقال بعبارة لشلش العراقي مثلت قبل ايام ضمير الكثيرين من انصار الربيع العراقي الناضج. ان "نهر الديمقراطية مازال عذبا وصالحا للشرب، وفساد الأسماك لا يعني فساد النهر. لا تتركوا هذا النهر من اجل بركة الدكتاتورية الآسنة مهما كان شكلها وطائفتها".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. سعد

    العراق اليوم

  2. زياد فؤاد

    دمت قلما وصوتا حرا.

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram