معاناة الجيش لا تقل عن معاناة الشعب. في الأمس كما اليوم. ففي عراق صدام تعرض لأسوأ استخدامات. ومع انهيار نظام صدام واجه أسوأ مصير، وهو الحل. ولم تكن هذه النهاية أمرا عاديا وفق أي مقياس من المقاييس. فالجيوش علامة فارقة أساسية وكبيرة من علامات الكرامة الوطنية في كل بلد من بلدان العالم. ولكن مأساة العراق في لحظة الغزو كانت تامة، وكانت شاملة لكل المستويات، ومنها الجيش.
عند اعادة تشكيله بعد 2003 واجه صعوبات وتحديات غير معهودة، ابرزها ولادته الإضطرارية تحت قيود الاحتلال، واشتباكه الفوري في معارك شرسة مع الإرهاب، وتحول دوره العسكري الى دور شرطوي، أي من مواجهة أخطار الخارج الى التصدي لمهمة تحقيق الأمن الداخلي. وقد انتهى به هذا الدور الى أن يصبح قوام نظام حكم عسكري، كان الاحتلال الأميركي قد أسسه، وورثه الحكم الوطني ورسخه. فالسلطة الأمنية العليا والفعلية في العراق العربي اليوم هي بيد الجيش الذي يشرف عليه القائد العام للقوات المسلحة.
وكان الحكم العسكري في ظل الظروف الاستثنائية مفهوما ومبررا. فبالاضافة الى الحرب على الارهاب، وانتشار الميليشيات، وضعف أجهزة العدالة الجنائية، كان البلد تحت الاحتلال، والاحتلال سلطة وقوة عسكرية في المقام الأول. ولكل هذه الأسباب كانت العسكرة، أوالحكم العسكري، شرطا يمليه الأمر الواقع. ولكن معظم هذه الأسباب لم يعد لها وجود اليوم، بعد عام على خروج القوات الأميركية من البلاد، واستعادة الحكومة سيطرتها على المناطق التي كانت خارج السيطرة. صحيح ان "القاعدة"، وجماعات مسلحة أخرى، لاتزال موجودة، ولكنها فقدت زخمها، ولم تعد سببا كافيا لاستمرار الحكم العسكري. لا بل ان هذا النوع من الحكم قد يشكل سببا من اسباب تغذية الارهاب بدل القضاء عليه.
ان النجاح في مواجهة الارهاب مرهون بعاملين سياسي أولا وأمني ثانيا. الأمني يتمثل بتطوير أجهزة المخابرات، لأن المعلومات عنصر حاسم في المعركة ضد الارهاب. والسياسي، وهو الأهم سواء في مواجهة الارهاب خاصة أو في الحفاظ على الأمن القومي عامة، يتمثل بتحقيق المصالحة الوطنية. فهذه المصالحة تعني في الحساب الأخير استعادة الثقة بين الشعب والحكومة. وإن احدى أهم نتائج هذه الثقة تحول الحرب على الارهاب من معركة بين حكومة وجماعات مسلحة، الى معركة وطنية بين الشعب والحكومة من جانب وبين الارهاب من جانب آخر. فالمصالحة الوطنية تعني تصفية المشكلات المهددة للنسيج الوطني، وتحويل الشعب من الاستغراق فيها، والتشظي بسببها، الى الوحدة وتحمل المسؤولية ازاء مصيره.
ان السلبية، أو اللامبالاة، ازاء المصير، هي نتاج الشعور بالاستبعاد أو الاقصاء عن المشاركة الحقيقية في المسؤولية عنه، وفي صنعه. وإن من طبيعة الحكم العسكري اشاعة مثل هذه السلبية أو اللامبالاة. ذلك ان جوهره يقوم على مصادرة ارادة القوى المدنية خاصة، والحياة المدنية عامة. انه حكم الطوارىء وحظر التجوال و"كل شيء من أجل المعركة". وبالتالي فإنه حكم مصادرة الشعب. وهذه المصادرة هي معين لا ينضب لتعميم السلبية، التي هي عامل من عوامل تغذية الارهاب.
وليس تطوير أجهزة المخابرات، ولا تحقيق المصالحة الوطنية، من مهمات الجيش. وبالتالي فإن مواجهة الارهاب ليست من صلب مهامه أيضا، لكن السياسة هي التي تفرضها عليه. وهي سياسة وضعته في الأمس على شفا مواجهة مع الكرد في المناطق المتنازع عليها، وجعلت من اخراجه من المدن مطلبا من مطالب احتجاجات المحافظات السنية اليوم، وقد يتكرر المطلب نفسه غدا في بقية المدن،، لأن التطلع الى حياة مدنية طبيعية لا يمكن أن يتوقف. وهذه سيرة نهايتها وضع الجيش في مواجهة مع الشعب كله.
وما من ذنب يتحمله الجيش في ذلك، لأنه في كل زمان ومكان مأمور السياسة والحكومة. ولكن حاجته غدت شديدة الى سياسة مُنقذة، تعيده الى الثكنة، ليستعيد بذلك دوره الأصيل ومكانته العزيزة لدى الشعب. وهذه الخطوة هي أحد أهم مداخل الشعب نفسه الى حياة مدنية طبيعية. أما آن للجيش والشعب الترجل من كل هذا التطرف في المعاناة؟
جميع التعليقات 2
smh
اكيد متعشي قصعة٬ بالعافية على كلبك
رمزي الحيدر
أتمنى أن بعض من قادة الجيش العراقي يقرأ مقالتك.