ستانسلافسكي(1863- 1938) ولقبه الحقيقي أليكسييف – مخرج وممثل مسرحي روسي وعالمي معروف, وهو أحد مؤسسي فرقة مسرح موسكو الفني, التي مازالت تعمل في موسكو لحد الآن, وأصدر ستانسلافسكي العديد من الدراسات في فن المسرح, منها كتابه المشهور – (حياتي ف
ستانسلافسكي(1863- 1938) ولقبه الحقيقي أليكسييف – مخرج وممثل مسرحي روسي وعالمي معروف, وهو أحد مؤسسي فرقة مسرح موسكو الفني, التي مازالت تعمل في موسكو لحد الآن, وأصدر ستانسلافسكي العديد من الدراسات في فن المسرح, منها كتابه المشهور – (حياتي في الفن ) الذي تمت ترجمته إلى الكثير من اللغات الأجنبية , ومنها لغتنا العربية, وترتبط باسمه مدرسة مشهورة في الفن المسرحي تعرف بـ (طريقة ستانسلافسكي ).
ابتدأت الأوساط الثقافية الروسية بالاحتفال في بداية عام 2013 بذكرى مرور (150) سنة على ميلاده, وكتبت وسائل الإعلام الروسية المختلفة حول ذلك, ومنها صحيفة – ليتيراتورنايا غازيتا ( الجريدة الأدبية ) في عددها الصادر بتاريخ 16 –22 كانون الثاني /يناير 2013 مقالة بعنوان – أحقا ستانسلافسكي مرة أخرى ؟ والتي شغلت صفحة كاملة تقريبا من الجريدة, تناولت فيها ريما كريجيتوفا (طريقة ) ستانسلافسكي وكيف أن هذه المفردة اللغوية ارتبطت به وأصبحت مرادفة له وصولا إلى الوقت الحاضر, ورغم أن التقنيات الحديثة أخذت تسود المسرح,إلا أن ( طريقة ستانسلافسكي) وانعكاساتها عند بعض المسرحيين المعاصرين ما زالت تتعايش مع كل تلك التقنيات, مشيرة إلى أن التجديد في الأفكار الجمالية للمسرح ما زال يجد الإجابات في ( صندوق الجدات). وقد وعدت جريدة ليتيراتورنايا غازيتا الاستمرار في أعدادها القادمة بنشر حوارات مع أساتذة باحثين في فن ستانسلافسكي. ومن جانب آخر , تم عرض خاص في مسرح موسكو الفني بهذه المناسبة كتبت عنه الصحف الروسية تفاصيل طريفة , وتحدثت عن الفنانين الكبار الذين ساهموا في إعداد هذا العرض وتنفيذه, معتمدين على وثائق عن ستانسلافسكي والرسائل المتبادلة بينه وبين كبار الأدباء والفنانين , ونشر الأستاذ عبد الله حبه, الفنان والصحفي العراقي المعروف والمقيم في موسكو منذ أكثر من خمسين سنة, مقالة ممتعة جدا بعنوان – (عودة إلى ما وراء الطريقة...ستانسلافسكي في يوبيله الـ 150) تناول فيها بالتفصيل كل جوانب ذلك العرض الخاص في مسرح موسكو الفني.
ساهم ستانسلافسكي مع رفيق دربه المخرج نيميروفتش- دانجنكو في إخراج مسرحيات تشيخوف في مسرح موسكو الفني, وأدى ادوار عدة شخصيات فيها,وبمناسبة الاحتفالات بالذكرى الـ(150) على ميلاده نقدم للقراء خلاصة لمقالة بعنوان – ( ستانسلافسكي وتشيخوف ) كتبها البروفيسور ف.ب. كاتايف , أستاذ الأدب الروسي في جامعة موسكو, ونشرها في كتاب صدر بموسكو عام 2011 عن تشيخوف,ويعد البروفيسور كاتايف في الوقت الحاضر واحدا من أبرز المتخصصين الروس في أدب تشيخوف.
يشير الباحث إلى أن ستانسلافسكي وتشيخوف قد التقيا في نهاية عام 1888, أي قبل تأسيس مسرح موسكو الفني, في مناسبات متباعدة ليس إلا,وأن ستانسلافسكي بدأ واقعيا بالتعرف على نتاجات تشيخوف عندما قرر صديقه نيميروفتش – دانجنكو أن يعرض مسرحية ( النورس) بعد أن اقتنع بذلك تماما, وهي المسرحية التي فشلت فشلا هائلا أثناء عرضها في مسرح بطرسبورغ, واضطر تشيخوف أن يهرب من المدينة بسبب ذلك. ويتوقف الباحث عند اعتراف ستانسلافسكي شخصيا, إلا انه لم يفهم المسرحية عندها, ولكنه – (أثناء العمل فقط, وبشكل لم ألاحظه أنا نفسي بدأت أتعايش معها, وبدون وعي أحببتها..وأصبحت معجبا بعبقرية تشيخوف ومتحمسا له )( ستانسلافسكي, المؤلفات الكاملة في 8 أجزاء.موسكو 1954-1961, الجزء الخامس, ص. 331-335).
كان تشيخوف يحضر تمارين المسرحية, وقد لاحظ رأسا كيف تتعمق انطباعات المخرج ستانسلافسكي, وفهم أيضا القيمة الحقيقية لمسرح موسكو الفني وأهميته التاريخية, ولهذا فقد طرح أمام هذا المسرح متطلبات صارمة وحازمة وجدٌية جدا.
أثناء عملية الإعداد لعرض المسرحيتين الأولى والثانية لتشيخوف, لم يختلط الاثنان واقعيا, ولم تعكس رسائلهما إلى بعض ذلك ( تم الاحتفاظ بـ17 رسالة من تشيخوف إلى ستانسلافسكي, و 37 رسالة من ستانسلافسكي إلى تشيخوف. انظر مراسلات تشيخوف في ثلاثة أجزاء. موسكو 1996, الجزء الثالث, ص.116-138), ولكن هذه المراسلات أصبحت منتظمة فقط عند الإعداد لمسرحية ( الأخوات الثلاث), وقد اختلفا في الرؤية تجاه بعض المشاهد فيها, رغم أن تشيخوف كان راضيا بشكل عام بشأن عرض تلك المسرحية في مسرح موسكو الفني , وقد تبلور التناغم الفكري بين تشيخوف وستانسلافسكي حول أهداف المسرح وأهميته ومضامينه .
يتوقف البروفيسور كاتايف بعدئذ عند ستانسلافسكي ,الذي كان يعتبر نفسه المخرج المعبر والمجسم لروحية تشيخوف على خشبة المسرح بواسطة أساليبه الجديدة في مجال استخدام العناصر والتأثيرات الصوتية والضوئية. لقد كان ستانسلافسكي يؤكد على انه المخرج الذي استطاع أن يجعل الممثلين يعبرون عن مزاج تشيخوف, وأن يعكسوا ذلك للمشاهدين أيضا, رغم أن نيميروفتش- دانجنكو ( وتشيخوف نفسه ) لم يتقبلا في إخراج ستانسلافسكي هذه ( الأشكال الساطعة ) للتعبير, وبالذات الوسائل الصوتية المتنوعة والإضاءة على خشبة المسرح, لأن هذه الوسائل لا تستطيع الكشف بدقة عن أفكار الكاتب المسرحي .
يتناول كاتايف في ما بعد الرسائل المكرسة لمسرحية تشيخوف الأخيرة وهي – (بستان الكرز ) مشيرا إلى أنها عكست التقارب الكبير والعلاقات الحميمة التي تبلورت بين ستانسلافسكي وتشيخوف, إذ ناقش تشيخوف أثناء العمل على عرض هذه المسرحية بشكل تفصيلي مع ستانسلافسكي حتى قضية توزيع الأدوار على الممثلين والخصائص المرتبطة بذلك, مؤكدا على الدور المهم لعمل المخرج بشأن العرض الفني للمسرحية, وقال تشيخوف لستانسلافسكي- ( لا تتحرج بشأن الديكورات) وأشار إلى انه يجلس أثناء التدريبات في المسرح (فاغراً فمه),وتحدث بتفصيل عن دور لاباخين المهم, وأشار إلى انه يثق بستانسلافسكي لأداء هذا الدور, معتبرا انه الوحيد الذي يستطيع أن يعكس ( تعقيد هذه الشخصية في المسرحية ). أما ستانسلافسكي, فقد كان شديد الإعجاب بمسرحية ( بستان الكرز ), وكتب في رسائله إلى تشيخوف عن ( انبهاره) بها, وأرسل برقية إلى تشيخوف جاء فيها – (أعتبر مسرحية بستان الكرز العمل المسرحي الأفضل بين كل الأشياء الرائعة التي كتبتموها, وأبعث بتهانيي القلبية لك أيها الكاتب المسرحي العبقري. إني أتحسس وأقٌدر كل كلمة فيها.), وكتب ستانسلافسكي لتشيخوف في رسالة أخرى يقول – ( الانطباع عظيم... وكل الأدوار فيها رائعة دون استثناء... ولو اقترحوا عليٌ أن أختار دورا لنفسي, وحسب ذوقي, فإنني سأحتار, إذ أن كل دور يجذبني إليه...وأخشى أن كل هذا سيكون صعب التقبل من قبل الجمهور, وانه لن يستطيع استيعاب كل هذه التفصيلات الدقيقة رأسا.آه, كم من الغباءات سنكون مضطرين أن نقرأ ونسمع عن هذه المسرحية,ومع هذا فإن النجاح سيكون مدويا ...), وأشار ستانسلافسكي أيضا إلى أن المسرحية متكاملة إلى حد,بحيث لا يمكن أن نحذف منها أي كلمة, وانه لم يجد أي نقص فيها, وأن الشيء السلبي الوحيد هو أنها تتطلب ممثلين كباراً وعمالقة أكثر مما ينبغي, من أجل الكشف عن كل جماليتها. وتحدث ستانسلافسكي بعدئذ , كيف أن القراءة الأولى لهذه المسرحية أثارته وسيطرت عليه, وأن هذا الإحساس لم يحدث مع مسرحيتي ( النورس) و(الأخوات الثلاث ), أما بالنسبة لـ(بستان الكرز), فيقول ستانسلافسكي إنه سيطرت عليه لدرجة (بأني بكيت, مثل امرأة, وحاولت أن أتمالك نفسي, ولكني لم أستطع..),ويصف لاحقا إحساسه المرهف وحبه الكبير تجاهها, ويعلن أن هذه المسرحية (خارج التنافس, وأنها لا تخضع للنقد, وأن الذي لا يفهمها هو أحمق), مؤكدا أن هذه هي قناعته الحقيقية, وأنه مستعد لأداء كل الأدوار فيها (إذا كان ذلك ممكنا) دون استثناء.لكن عندما بدأ الإعداد لعرض المسرحية ظهرت بينهما المواقف المتباينة,خصوصا بشأن الصفة العامة للمسرحية , وهل هي ( كوميديا) كما كتب تشيخوف ,أم ( تراجيديا), ولم يكن تشيخوف راضيا على العرض المسرحي ذاك,بل إنه أشار إلى أن ستانسلافسكي قد أودى بها, ولكن العرض الذي قدمه ستانسلافسكي في مسرح موسكو الفني أصبح الآن نموذجا كلاسيكيا, وما زال تأثيره على المشاهدين كبيرا, رغم أن تشيخوف لم يتفق مع تفسيراته في الإخراج والتمثيل,ولم يستطع تشيخوف المشاركة في التمارين الأساسية بسبب مرضه وابتعاده الإجباري عن موسكو, ولكن من المهم الإشارة- كما يؤكد البروفيسور كاتايف – إلى أن ستانسلافسكي نفسه كتب بعد عقدين من موت تشيخوف تقريبا,في كتابه (حياتي في الفن ) أن تشيخوف قد أغنى تطور المسرح لأنه كان ( متطلعا أبدا إلى أمام ), وأوصى ستانسلافسكي المخرجين والممثلين في المستقبل, أن الفصل عن تشيخوف لا يزال مطروحا ولم ينته بعد, ولم تتم عملية القراءة كما يجب أن تكون, ولم نتعمق في جوهره, وأننا أغلقنا الكتاب قبل الأوان, مؤكدا على ضرورة فتح الكتاب من جديد ودراسته كي تكتمل القراءة حتى نهايتها.