يبدو أن أساتذة اللغة، حفظهم الله، مثل الساسة الذين شاخوا في مناصبهم، يريدون الاحتفاظ بالهيمنة وايضاً بالمكانة التي يستحقونها لعلمهم ولما خبروا في دنياهم وحقول عملهم.لكن الحياة عادةً تتحرك باتجاه كسر الأنماط والقواعد والأنظمة. أي باتجاه التغيير. ومن غ
يبدو أن أساتذة اللغة، حفظهم الله، مثل الساسة الذين شاخوا في مناصبهم، يريدون الاحتفاظ بالهيمنة وايضاً بالمكانة التي يستحقونها لعلمهم ولما خبروا في دنياهم وحقول عملهم.
لكن الحياة عادةً تتحرك باتجاه كسر الأنماط والقواعد والأنظمة. أي باتجاه التغيير. ومن غير المعقول أننا نتقبل التغيير في الملبس والمأكل والأنظمة الاجتماعية، ونرفضه في حقل معرفي نحن سادته وأساطينه.
الحياة تنحت مفردات تريدها وتحذف وتستعير مفردات. هي ايضا تعمل على ابدال الصيغ في اللغة والانماط التعبيرية فيها. اللغة كائن حي. وهي كائن اجتماعي يتحرك ، يعمل ليل نهار. وفي هذا النشاط الدائم مفردة تموت واخرى تولد وثالثة على غير ما اردنا نحن ولكن كما ارادت قوة اجتماعية تعمل وتتشابك بهذه اللغة وتحرف اتجاه دلالتها. اللغة ليست مرتبطة بالمُدَونَّ ، بالكتاب، حسب . اللغة مرتبطة بحركة مجتمع وحاجاته المألوفة والمستجدة.
إن أسلوباً تصويبياً، انضباطياً ، لا يصلح للعلم ، أي للمتابعة العلمية، اللهم، قد ينفع للتذكير بما كان. ولهذا فمنهج أستاذنا الكبير مصطفى جواد: قل ولا تقل ، اقرب للطرافة منه للعلم . "قل ولا تقل" لأستاذنا جواد ، مما لا ترتضيه علوم اللغة الحديثة. اللغة ادوات تعبير عن احتياجات الناس، وهذه الاحتياجات هي صاحبة الرأي. بمعنى آخر، اللغة كلام language is speech والكلام لا يتحكم فيه حاكم ولا توجهه اوامر ونواه. الحياة صاحبة الشأن تعمل خارج السياقات وقد تتجاوز الموروث، بل هي تتجاوزه، يومياً من غير ان نشعر وحتى يتضح التجاوز. التجاوز هو امتيازها كما هو دليل حيويتها والا فهي لغة خاملة ستتحجر وتموت. لهجات عربية في الجزيرة مسحتها لهجة قريش ، او التطور، ولهجة لندن هي التي سادت فصارت اللغة الانكليزية اليوم. ولغات الشارع الانكليزي اليوم ليست بذاك "الصفاء" الذي للغة ب . ب. سي . او لغة الملكة. ولنا اليوم لهجات متطورة وذات مرونة للمستجدات، مثل اللهجة المصرية.
هذه نتاجات حركة الحياة واحتياجات الناس للتعبير عنها. لهذا، نحن بحاجة الى عقل يتقبل التجاوز ويرتضي بتحول الدلالات في المفردات مادامت هذه المفردات تنتقل مع حركة الحياة من يوم الى يوم ومن عصر الى عصر.
إننا لا نستطيع أن نُخطّئ شاعراً او كاتباً، الا مدرسيّاً، فبين مؤهلات وامتيازات أي شاعر او كاتب هو قدرته على ابتداع تعبير. وهذا يتطلب انزياحات دلالية ونحوية. الانحراف هنا أو العدول بلغة الجرجاني، حاجة إبداعية. رسوخ هذه التجاوزات يُحْدِث من بعد تحولات أسلوبية قد تكون، ان كانت أصيلة، مما يطور اللغة.
فاعتراضنا مثلاً، على شاعر او تخطئتنا له، وهو يكتب "يهفو له" بمعنى يحبهُ او يميل اليه، كما هو سائد، بحجة ان "هفا" معجمياً تعني ذهب او طار. وانه فعل لازم يتعدى بـ "في" ويكون معناه "أسرع". ويتعدى بـ "الباء" فيكون معناه "حرَّك"، فهفت به الريح تعني "حركتهُ" ... اعتراضات مثل هذه أظنها تضحك اكثر مما تفيد.
اللغة كتابةً وكلاماً تجاوزت تلكم المعاني بحدودها القديمة بينما ظلت المعاجم محتفظةً بها. وأنا شخصياً، أراجع كتابتي احياناً فأجدني أخطأت – بمعنى أصبت! فهي تجاوزات صحيحة وأكون مخطئاً إذا التزمت بما قال به القرن الثاني او حتى الرابع الهجري: "يهفو لها" اليوم معناها "يميل لها"، يريدها، يشعر بشوق لها وهي معان اجمل والتجاوز جعلها مفيدة واكثر ثراءً. كما انها ما عادت تُعَّدى بـ في أو بـ حسب ولكنها صارت تتعدى باللام ايضاً !
لم يصنع هذا قانون ولا أمر من أستاذ حريص. حركة اللغة في الحياة هي التي أوصلتها للمعنى الجديد وأبعدتها عن المعاني القديمة. لا خطأ هنا، هنا الصواب الذي اوجدته حاجة جديدة، مجتمعية – حضارية ، وهو ما يرتضيه علم اللغة الحديث ولا يعترض عليه.
ولعل الشعر، هو الاحوج لاتباع التعابير ولحرْثها او تطويرها. سبب ذلك طلب الدقة والتمكن من الحال. هي حيوية لغة ايضا. يحضرني هنا ما قرأته يوماً عن بيت لأبي القاسم الشابي، الذي قام فيه الشاعر بعمل جريء، نادرا ما تكون الجرأة لهذا الحد، وفي زمنه! فقد جاء بفعل واعطاه دلالة فعل مقاربٍ له مختلف عنه. وجاء بمفعول ثان لهذا الفعل وحقه مفعول به واحد! أنا لا اخطّيء الشاعر هنا انا احيي شجاعته!
وأبثُّ الوجودَ أنغامَ قلبٍ
بلبليٍّ مكبَّلٍ بالحديدِ
اولا: هو جاء بالفعل "بثَّ" بمعنى "ملأ" واعطى الفعل الاول دلالة الفعل الثاني، ملأ. هذا يسمونه في اللغة (عدول دلالي). ثانيا: لم يتوقف عند هذا الحد، فقد اتى له بمفعول ثالث، فصار الفعل من ذوات الثلاث قوى. صار من الافعال ذوات الاماكن الثلاثة بعد ان كان من ذوات المكانين. فهذا الفعل، لغةً، يستعمل متعدياً الى مفعول واحد. جاء في لسان العرب، بثَّ الشيءَ أو الخبرَ، يبثهُ بمعنى فرّقَهُ ونشرهُ. لكنه، الشاعر الشجاع ، جعله بمعنى ملأ وتحرك به الى حيث يستكمل المعنى، يستكمل حاجتهُ هو لا الفعل!
اقول بعد هذا المقْتَبَس، من غير ان نمتلك رحابة عقلية وننظر لمسائل اللغة بنظر علوم اللغة ورؤيتها، ومن غير اقرارنا بطبيعة التحول، او التطور، لا نطور لغتنا، وقد نضطر لهجرها كما حصل لمن تمكنوا من الفرنسية وعددهم كثير اليوم! فإذا ما ظل أساتذتنا المحترمون حاملين عصيَّهم فسيحكمون على انفسهم باللاعلمية ويضطرون الكتّاب وقبلهم المتكلمين على الاستهانة بهم.
في كل حال لابد من ادراك علمي لحقيقة ان هذه تغيّرات التي تصيب التعابير الموروثة وبعض البنى النحوية وما يطرأ على الدلالات، هي مما يغني اللغة ويغني من بعد المعجم التاريخي للغتنا. لنفهم اللغة ولنتقبلها بسياقاتها الحالية، فذلك هو منطق العقل، وتلك هي طبيعة اللغات، كل اللغات في العالم!
جميع التعليقات 1
Waqr Hashem
اتمنى ان لا يكون ما قصده الاستاذ في مقاله هو الاستغناء عن العربية الفصحى لصالح العامية! وقار هاشم