في وقت ما ومكان ما استيقظ عقل بشري واكتشف ان السعادة ممكنة على هذه الأرض، وانها يجب أن تكون مثالا أو هدفا يسعى الانسان لتحقيقه هنا على سطح هذا الكوكب. كيف كان الأمر قبل هذا الاكتشاف؟هل كانت التعاسة هي المثال أو الهدف؟ ليس بالضرورة. لكن ربما كان البحث عن السعادة مؤجلا الى يوم الدين، أو أن الأمل في تحقيقها معدوما على وجه الأرض، أو أن أهداف البشر كانت مختلفة، أو حتى لا وجود لأهداف في الحياة أصلا لدى البعض.
ولكن وقع اكتشاف السعادة، وحدث أن أصبحت مثالا. فُهِمَ على نحو ما إن الحياة ليست طيفا ولا سرابا ولا وهما، وإنما حقيقة واقعة وممتدة على طول عمر الإنسان. وكون الحياة حقيقة فعلية يعطيها قيمة حقيقية. وعندما تصبح للحياة قيمة يصبح للإنسان نفسه قيمة. وكل ذلك لا يحدث إلا عندما يبدأ عقل الإنسان العمل بدرجات مميزة من طاقته. والعقل لا يفعل ذلك دائما. فما حاجة العبد الى ذلك؟ وما داعي العقل السليب اليه؟ ولماذا يتحرك العقل اذا وجد أمامه قواعد محددة للسلوك، وأفكارا جاهزة؟ اذا نام العقل على قناعات ما واستراح فما حاجته الى أن يستيقظ ويتحرك؟
لكن مع اليقظة التي حدثت لأسباب ما وفي ظروف ما اكتُشفت السعادة. ومع هذا الاكتشاف صارت السعادة مطلبا في المأكل والملبس والسكن والعمل والزواج. صحيح إن الانسان كان يقوم بهذه الأعمال على الدوام، ولكن القيام بها على سبيل العادة والتقليد شيء، وممارستها بسعادة شيء آخر. وفوق ذلك اختُرعت أفعال جديدة هدفها الحصري تحقيق السعادة مثل الألعاب والسياحة وأنواع التسلية العديدة الأخرى. كما دخل "الحق في السعادة" في بعض الدساتير.
ومع هذا الاندفاع الى السعادة أصبحت ممارسة الحياة نوعا من الحرب على التعاسة. فالعبد يسعى الى لذة الحرية، والفقير يريد الغنى، أو على الأقل التمتع بإمكانية الحصول على منية السعادة. في كل الأحوال لم تعد التعاسة مبررة، ولا الحزن مفخرة، ولا المعاناة هدفا. فالسعادة هي الهدف.
ولكن بعد كل السعادة من اكتشاف السعادة، ومن التشبع ربما بأسبابها، وقع نوع من الإنقلاب عليها. وهو انقلاب لا يمجد نقائضها، ولا يشيد بأضدادها، ولكنه ينفي أن تكون السعادة هي الهدف أو المثال الذي يسعى اليه الإنسان. ان لهذا المخلوق العجيب والكثير الغنى والتعقيد أهدافا أكثر تشعبا وغموضا وتنوعا وتعددا من السعادة. يقول الشاعر الألماني هولدرلين إن "السعادة ماء فاتر على اللسان". وعلى عادته في الذهاب الى الأقاصي يقول نيتشه إن "الانسان لا يسعى الى السعادة، فقط الإنكليز يفعلون ذلك".
وتعليقا على هذه الأقوال واشباهها المعبرة عن ذلك الانقلاب أو المنعطف يقول الفيلسوف البريطاني أشعيا برلين" إن أقوالا من هذا النوع كانت ستثير الضحك في القرنين السابع عشر والثامن عشر". وبرأيه فإنه نتيجة " الحركة الرومانتيكية" لم تعد تلك الأقوال اليوم مثيرة للضحك.
وفي القرنين الـ 17 والـ 18 حدثت الحركة الفكرية العظمى المسماة بـ "التنوير"، والتي كانت "السعادة" أحد مكتشفاتها. وحسب كتاب برلين "جذور الرومانتيكية"( ترجمة سعود السويدا – دار جداول)، فإن الرومانتيكية توازي "التنوير" في الأهمية، وإن الأولى مثلت "ثورة" هزت وأحيانا وجهت طعنات قاتلة الى الثانية. ومن الحركتين، أيضا حسب برلين، تشكل حصاد الفكر والأدب والفن الغربي الحديث كله.
والذي يمكن أن نكون على يقين منه إن البحث عن السعادة لم يكن بين ما وصلنا واستقر في ربوعنا من "طشار" ذلك الحصاد.
جميع التعليقات 1
اماني العبدلي
ربط موضوعي جميل .. بديع .. تحياتي