رحبتُ بالدعوة إلى "ندوة الثقافة والعلوم" في دبي، واقترحتُ أن أتحدث عن الموسيقى، متجنباً قراءة الشعر. وقصرت الحديث الموسيقي على محاولة الإجابة عن السؤال الآتي: هل للعرب موسيقى جدية (كلاسيكية)؟ ولكن قبل أن أقدم لك مُلخصاً لما ذهبتُ إليه أحب أن أنقل لك انطباعي وأنا أتعرف على الشخصية الخيالية لهذه المدينة. فالسيارة التي أقلتني إلى فندق "جراند حياة" اخترقت خيطاً أرضياً تحت الشبكة الخيالية لناطحات السحاب. في نهار اليوم التالي عرفت أن مظاهر دبي تنتسب لصيغة "أفعل" التفضيل في كل شيء. الأضخم، الأكبر، الأعلى..الخ. من المقهى/ البار الذي يقع في الطابق الرابع والستين لفندق في قلب الـ"ستي سنتر" نسيت اسمه، كنت أطل ليلاً على الحوض المائي الذي يتوسط قلب المدينة. نافورات الماء المُضاءة تتدفق من قلب البحيرة وفق عزف موسيقي شرقي حيناً، وحيناً غربي، ذكرتني بـ "فانتازيا"، أول فيلم كارتون لديزني جسد فيه الإيقاع واللحن والهارموني الموسيقي على هيئة حركة شخوص، وخطوط وكتل ألوان. ولأن عنصر النار في الطبيعة لا يقل أثراً عن عنصر الماء فسرعان ما تحولت نافورات الماء في البحيرة إلى نافورات نار تتراقص في الهواء. كنت أطل من فوق على ناطحات السحاب المرقشة بالضوء في قلب العتمة، فأرها هيئة تخرج من رحم "الخيال العلمي". حتى خُيّل لي أني يمكن أن أتقمص بشكل خاطف هيئة "بات مان". أقفز بيسر فوق خيط من الضوء السلكي، منحدراً إلى النغم المائي أو الناري، ومرتفعاً بصورة مفاجئة مع "برج خليفة" الذي يحلق عمودياً، كنسر لم تمكّنه السرعة من فرش جناحيه، إلى نقطة التلاشي.
في "ندوة الثقافة والعلوم"، ذات العمارة التي نأت بنفسها عن سطوة "الخيال العلمي" لمدينة دبي، واحتفظت بحلة الفن وروحه، بفضل حرمة الموروث التي يتمتع بها مؤسسها الأستاذ محمد المر، تحدثتُ أولاً عن الموسيقى الجدية (صفة أفضلها على مفردة الكلاسيكية). لأن معرفة معنى "الجدية" قد ييسر لنا الإجابة عن السؤال المقترح: "هل للعرب موسيقى جدية؟".
صفة الجدية في الموسيقى لا تختلف عنها في الكتاب أو اللوحة أو المسرح والسينما. إنها تتطلب درجة من الوعي قد لا يتطلبها الكتاب، اللوحة، المسرح أو السينما ذات الطبيعية الترفيهية. صفة الترفيه عادة ما تكون جماعية. في حين تتطلب صفة الجدية عزلة نسبية أو مطلقة. فأنت أمام العرض الأوبرالي أو السيمفوني عادة ما تكون في عزلة داخل نصف متر مربع، هو مساحة الكرسي الذي تحتله. لا يسمح الإصغاء بالحوار مع الجوار، أو الحركة وطقطقة المسبحة. الأمر الذي تجد نفسك فيه طليقة حين تحظى بحفلة لأم كلثوم أو يوسف عمر. ثم أن هذه الجدية في الموسيقى أو الفن عموماً تستدعي قلباً مفكراً إن صح التعبير، قدرةً على المتعة الروحية والعقلية التي تتجاوز متعة الحواس. فرواية لتوماس مان أو دستويفسكي، ورباعية وترية لبيتهوفن، وقصيدة لصلاح عبد الصبور، وفيلماً لبيرغمان، ولوحة لبيكاسو...الخ لا يتقبلها مستوى من الوعي ألِف روايات إحسان عبد القدوس، وأغاني شادية ، وقصائد الشعر الشعبي... مع أن كلا "الجدي" و"الترفيهي" يتمتع بحرمة ومكانة خاصة في تاريخ الإبداع الإنساني.
فلمَ إذن أضع هذه الموسيقى الجدية موضع تساؤل حين تتصل بالعرب؟
الموسيقى الجدية عادة ما تخرج من رحم الدين. حدث هذا مع كنيسة الغرب ومعابد الشرق. لأن هذا الرحم يرى في الموسيقى الجدية وسيطاً روحياً ونبيلاً بين المخلوق وخالقه. ولكن المسجد الإسلامي لم يكن هذا الرحم. هل لأن الإسلام يُنكر أداءً تعبيرياً على هذا القدر من السمو والروحية؟ كنت أعتقد ذلك. ولكن الإسلام ذهب إلى بلدان الشرق: فارس، الهند، الصين وما تلاها. وحين اختلط بجذور موروثها القديم تفجرت ينابيع موسيقاها الجدية دون عارض. الأمر الذي جعلني أعتقد أن السبب كامن في العرب لا في الإسلام، لأن عربي الجزيرة تعرض لطبيعة صحراوية بالغة الجفاف والقسوة، شحذت حواسه الخمس فأيقظت حسّيته وحدها. في حين أهملت شحذ قوته العقلية والروحية التي تتمتع بما نسميه "البعد الميتافيزيقي" للوعي. والموسيقى الجدية أحوج ما تكون إلى هذا البعد. على أن هذا البعد تألق على المستوى النظري وحده في كتب العرب الفلسفية والتصوفية، حين اطلعوا على فلسفات الشرق.