TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أنواع الطائفيين.. وسراج كميل وعلي

أنواع الطائفيين.. وسراج كميل وعلي

نشر في: 3 فبراير, 2013: 08:00 م

لم أتذكر هذا الصباح سوى محاورة شيقة منسوبة الى لحظة صفاء او خلوة على اطراف الكوفة جمعت علي ابن ابي طالب وتلميذه كميل ابن زياد النخعي. يسأل المريد: سيدي ما الحقيقة. فيرد الإمام: محو الموهوم وصحو المعلوم. اقدامي تقودني الى حديقة الشعب في داون تاون السليمانية. منذ سنوات لم آت الى هنا. فجأة وقفت امام تمثال للشاعر الكردي القديم محوي. لقبه الشعري المستمد من المحو الصوفي، يغريني ان اجلس تحت تمثاله الى جوار شجرة وأكتب المقال هذا. لا يحصل دائما ان تكتب عن التشيع والطائفية والمحو في كلام علي، قرب تمثال لمحوي ونالي وغوران وعشرين شاعرا آخر أنجبتهم السليمانية وغرست تماثيلهم بين الاشجار وسط المدينة القديمة.
ليست هناك مدينة عراقية صنعت ذلك مع شعرائها سوى السليمانية. انني أتخيل خيطا من الوهم اللذيذ استخرجه من عمامة الشاعر محوي المنحوتة بالجبس الابيض، وأمده الى قبر السياب الراقد تحت اكوام القصائد في مقبرة الحسن البصري المستلقي الى جوار آلاف الفقهاء واللاهوتيين تحت قبته المخروطية على اطراف الزبير، حيث نقرأ محوا من طراز آخر للحسن الذي اخذ "خرقة التصوف" من علي وكميل وسلمها لكل مشايخ الطريقة اللاحقين.
رغم كل صراعات ذلك الزمان الا ان احدا من الجيل المؤسس لم يتخيل ان يكون مثقفو "العراقين" على هذه الدرجة من الطائفية مطلع الالف الثالث للميلاد.
انني كغيري مصدوم بخطاب الكراهية الطائفي لكثير من المثقفين الذين احب قصائدهم ونصوصهم من الطائفتين. وبدون ان ألجأ الى اي "حلول صوفية" لا اجد صعوبة كثيرة في فهم انتمائي عائليا الى التشيع واعتزازي بدفء كل هذا التراث الفلسفي والفكري للشيعة، وقدرتي على اتخاذ موقف نقدي من سلطان ينتمي لهذا المذهب، هنا او في إيران او سواهما. فعل هذا علي شريعتي كما فعلته بيانات العوائل الدينية الكبرى في النجف ومراكز القوى الاجتماعية في بغداد والبصرة، وسط ازمة طوزخورماتو وتظاهرات المنطقة الغربية.
اننا امام عدة انواع من المثقف الطائفي. الاول يعتقد ان من الممكن إعلان الحرب الأهلية بسطر واحد يكتبه في مقال جنائزي حلو الكلمات خطير الاستهلال. لقد قال لنا بعبارة واحدة ان شيعيا لقي مصرعه لاسباب طائفية في بغداد، وان هذه الظاهرة ستتسع. ويطلب منا ان نسلم بما يقول ولو شككنا فسنتعرض من جمهور الطائفية الى اللعن والاتهام بالعمالة للفريق الاخر.
اما النوع الثاني فهو مثقف يشعر بالحزن لأن الطائفة المقابلة ترفع شعارا معتدلا وتصدر بيانات حكيمة ومتوازنة. ان وظيفته صناعة الكراهية وهو يحتاج سياسيا متسرعا مثل المالكي ليثبت ان الصراع الطائفي قادم لا محالة، اما حين يظهر مرجع او سياسي متعقل فهذا يحزن المثقف الذي يريد اشعال النار. ويريد من السنة والشيعة ان يرفعوا رايات متعارضة كي تثبت صحة آرائه المتشنجة وتقييماته الطائفية.
اما النوع الثالث فهو طائفي لا يمتلك جرأة إعلان موقفه لكنه "يعمل لايك" على التصريحات الطائفية في فيسبوك وتويتر والتي يكتبها المثقفان الأول والثاني.
اما الرابع فهو مثقف حائر ومتردد، يوما يكتب أشياء معتدلة ويبلور موقفا نقديا ازاء ساسة طائفته، ويوما يطلق العنان لغريزة العداء وينتمي الى مواقف جزء من مجموعته الدينية بلا حسابات حتى وهو علماني "قرص".
اما الخامس فهو مثقف انتهازي لا حائر ولا متيقن، يبحث عن الفريق المتفوق عسكريا ليصطف معه.
وقد وعدتكم بالأمس بحكاية قصة قصيرة نقلها لي حليف بارز للسيد المالكي. سأله: كيف ستنقذ العراق بعد كل هذه الجبهات. فأجاب السلطان: "لا يمكن انقاذ العراق، والتقسيم قادم لا محالة، وعلينا الاستعداد لتلك اللحظة".
وهذا الرأي يمكنه ان يفسر لنا الكثير من بيانات السلطان ومواقفه. انه يتخيل ان باستطاعته "طرد" السنة والاكراد من منزل العائلة الكبير، والتفرد بالطائفة الشيعية الكريمة في القسم الشيعي من العراق واحتكار تمثيلهم وحكمهم بنهج "دولة القانون".
لكني اسأل على عجالة: كيف اعتقد المالكي ان الصدر والحكيم والجلبي وعبد المهدي وديمقراطيي الشيعة وعلمانييهم سيخضعون لنهج حكمه المتفرد لحظة التقسيم التي يراها قادمة لا محالة؟
يبد انه لم يعد له خيار سوى الدفع بهذا الاتجاه، لانه لم يستطع ان يجعل السنة يصفقون له حين استعرض الدبابات في طوزخورماتو. ولم ينجح في جعل الاكراد يصفقون له حين حاول ضرب مظاهرات السنة ووصفها بالفقاقيع. كما لم ينجح في جعل الشيعة يصفقون له بقوة في الحالتين عدا بضع عشرات تظاهروا دعما له في ساحة التحرير "المحتلة" من قبل مجالس الاسناد والقوات الحكومية.
ان استبداد المالكي ليس شيعيا، والتيار الشيعي الغالب يرفض نهج حكمه ويريد بديلا من التحالف معتدلا ينزع التوتر. لكن المثقف الطائفي لا يستوعب المشهد الواضح المضاء بلا سراج.
ان العودة الى لحظة ١٩٦٣ التي اقترحها فخري كريم في مقال الأمس، قد توضح لنا كثيرا كيف ظهرت هذه الأنواع من المثقفين، وفي هذه العجالة أتمنى عليه أن يسجل شهادة مطولة لجيل لم يفهم بعد سر الانتكاس العميق في روح الثقافة.
انني اكتب هذا قرب تمثال الشاعر محوي، وأفكر بالصلة الحلوة بين التشيع والمعتزلة والمتصوفة. وبصفحات مشرقة من تاريخ الفكر والثورة. ولم اتذكر هذا الصباح سوى محاورة شيقة منسوبة الى لحظة صفاء او خلوة على اطراف الكوفة جمعت علي ابن ابي طالب وتلميذه كميل ابن زياد النخعي. يسأل المريد: سيدي ما الحقيقة. فيرد الإمام: محو الموهوم وصحو المعلوم. يسأل كميل ثانية: مه يا سيدي؟ فيرد الإمام: يا كميل أطفئ السراج فقد طلع الصباح!
ان الصباح يغنيك عن ضوء السراج، في اطراف الكوفة او على رأس الخليج او قرب حدباء الموصل. خطاب الطائفية الذي يريد ابتلاع المنطقة سيفضحه ألف سراج وسراج، مطلع الالفية الثالثة. هذا رهاني ورهان الكثيرين ولسنا أصحاب هذا الرأي اقلية ثقافية في هذه البلاد، طالما كنا نبحث عن معيار مدني حديث، قد يمنحنا وطنا يغرس شعراءه مع الأشجار في حدائق تصفي النفوس.. كما فعل أهل السليمانية الطيبون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. الموج الهادر

    الاستاذ العزيز سرمد المحترم تحية طيبه وبعد... ذكرت المثقف العراقي او مثفي الصدفه ... صدقني كلمة مثقف كلمة لم اجدها في مجتمعنا العراقي الا عند اناس قليلين جداً جداً.....و لايوجد مقياس لدى عامه الناس للشخص المثقف فالمعروف عند العراقيين كل من اكمل الدراسة ا

  2. ح.ب

    فأجاب السلطان: لا يمكن انقاذ العراق، والتقسيم قادم لا محالة، وعلينا الاستعداد لتلك اللحظة . !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! جواب شخص لا يصلح ان يكون بواب في باب عمارة متهالكة.

  3. مراد علم دار

    لا اعرف لماذا السلطان الا يسمع صوت أحرار الفكرالسياسي الذي يضيه الطريق المظلم هو يرها على ما اظن تن الرجل لا يسمع الى نداءات العقلاء تحيتي لصئاغ الكلمات الاستاذ الطائي

  4. yaser

    استاذ سرمد شكرا لك على هذه المقاله الاكثر من رائعه فقد وصفت حال جميع المثقفين في العراق ومن كلا الجانبين فالعراق بحاجه الى مثقفين بعيدين كل البعد عن هذا التخندق الطائفي ........ تقبل تحياتي واعتزازي بك ما تكتبه

  5. ابو اصيل

    بحثت كثيرا ولم اجد ولو عذرا واحدا يبرر للمالكي استخدامه للقوة بهذا الشكل الا اذا اراد ان يستعين باعذار ابو عدي حينما دك مدننا في البصرة وبقية المحافظات بالمدفعية و مختلف الاسلحة تحت ذريعة تطهير المدن من المخربين و الغوغاء ,اهكذا تدار الامور بفتح نار على م

  6. همام الصالحي

    كعادته الاخ سرمد يجانب الحقيقة ويغرد خارج السرب والغاية الوحيدة والهدف الاوحد عند سرمد تسقيط المالكي ...ولا ادري اهي دوافع شخصية ام دولية

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram