في زمن بعيد وقبل دخول السيارات إلى العاصمة بغداد ، كانت خدمات "الحوذي " أي العربنجي بلهجة البغداديين ، ضرورية جدا ، فصاحب " الربل " وقتذاك يتولى مهمة نقل الركاب من منطقة إلى أخرى ، وعلى إيقاع خطوات الحصان تصل الخاتون إلى منزل الخياطة ، والأفندي إلى المقهى لشرب النركيلة ، وقضاء وقت مع الأصدقاء بالحديث عن الوالي العثماني ، ومشاريعه في البناء والإعمار ، وبسط الأمن ، وملاحقة اللصوص وقطاع الطرق ، وقد يتشعب الحديث ليتناول مخاطر حصول فيضان.
في المساء يتجمع أصحاب الربلات في الأماكن العامة لنقل الزبائن إلى منازلهم وعادة ما تكون الأجرة في تلك الساعة اقل من المعدل الاعتيادي ، لأن صاحب الربل يريد أن" يبند " ليعطي راحة له ولحصانه استعدادا لعمل اليوم التالي ، احدهم لكثرة سماعه أحاديث الفيضان ولفقدان ثقته بالوالي العثماني لمواجهة الخطر وحماية الأهالي من الغرق ، ولاسيما سكان الصرائف القريبة من النهر ، خاطب أبو الربل زبونه الأفندي تاجر المواشي بأن يساعده في بيع حصانه ، بأي ثمن لكي ينتقل لمكان آخر ، ويعتزل المهنة ويتجه نحو" كار" أي عمل آخر يوفر لأسرته دخلها اليومي ، وبحساب ذلك الزمان لا تتجاوز ثلاثة دراهم في اليوم ، لحصانه النشيط الفضل الأكبر في توفيرها.
الأفندي استجاب للطلب ووعد الرجل بأنه سيبذل كل جهوده شريطة أن يخضع الحصان المعروض للبيع لفحص دقيق من قبل لجنة متخصصة لها قابلية في اكتشاف الخلل إن كان الحصان يعاني الرجفة ، و" يشمر صفح" لفقدانه إحدى عينيه ، أو يتمتع بنزعة عدائية باستخدام قدميه الخلفيتين لزكط من يقترب منه ، واتفق الطرفان على موعد محدد لإتمام الصفقة ، ولكن قاعدة تمشي الرياح بما لا تشتهي السفن ، عطلت تنفيذ الاتفاق ، وجاءت لصالح صاحب الحصان ، ففي ليلة ممطرة وقبل انغمار الصرائف خلف السدة بمياه الفيضان تمكن من إنقاذ أفراد أسرته من خطر الغرق ، متوجها إلى مكان يقع في ارض مرتفعة ، منتظرا إجراءات الوالي العثماني لإنقاذ المتضررين من الفيضان.
التاريخ العراقي يحتفظ بشواهد ، وقصص كثيرة ، عن مآسي الفيضانات التي تعرضت لها البلاد ، وما خلفته من أوبئة وأمراض وكوارث ، راح ضحيتها ملايين الأبرياء، وكان الوالي وطاقم فريقه لا يمتلكون وسائل إغاثة باستثناء حث رجال الدين على رفع الدعاء إلى الباري عز وجل لحفظ البلاد والعباد ، وإعطاء أوامر للجندرمة لمساعدة الأهالي لدفن موتاهم وقراءة سورة الفاتحة نيابة عن الوالي على أرواحهم .
حكاية الحصان المعروض للبيع تكررت هذه الأيام بحسب تقرير تلفزيوني لفضائية عربية أعده مراسلها في بغداد شفيق عبد الجبار الذي زار المناطق المتضررة في محافظة صلاح الدين ، وجاء في تقريره أن المتضررين ، أبدوا رغبتهم في شراء الخيل لتأمين تنقلهم من مكان إلى آخر ، لأن ما وفرته الحكومة من وجهة نظرهم ليس كافيا لتلبية جميع مطالبهم ، ومن يحتفظ بحصانه منهم أكثر حركة في التنقل وسط السيول مع توقعات بسقوط أمطار غزيرة في الأيام المقبلة ، وانتعاش تجارة بيع الخيل .
حصان للبيع
[post-views]
نشر في: 6 فبراير, 2013: 08:00 م