TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > السعودية.. وصانع النرد الفارسي

السعودية.. وصانع النرد الفارسي

نشر في: 6 فبراير, 2013: 08:00 م

أتذكر اليوم مقالاً نشرته قبل أكثر من سنتين عن "أحفاد قصي والحكيم بوزورغ مهر" حول موقعنا كعراقيين بين جزيرة العرب وبلاد فارس اللذين يتصارعان على شاطئ الفرات منذ قرون، بينما نكتفي نحن بما يشبه الفرجة أو بموقف يصعب تعريفه.

وأحسب أن المؤرخ الفرنسي كلود كاهين هو الذي يبدأ بتعريف جزيرة العرب عبر العودة إلى مغامرة تاريخية قادها قصي بن كلاب جد النبي محمد، حين ابتكر واحدا من اصعب طرق الترانزيت للتجارة قبل نحو ألفي عام. والحكاية ببساطة ان العراق والشام كانا صلة الوصل بين أسواق آسيا واوربا، لكنهما بعد سقوط بابل تحولا إلى ميدان معركة طويلة بين الفرس واليونان ثم الرومان. البضائع تتلكأ وكلفة النقل غير محتملة. وفي هذه اللحظة ظهر قصي بن كلاب ليقترح تحويل مسار التجارة التاريخي، من بين النهرين والشام، الى طريق ينطلق من موانئ اليمن ويخترق بلاد العباهلة في حضرموت موطن الساميين القديم، صعودا نحو موانئ البحر المتوسط من جهة لبنان.

سأل التجار: من يجرؤ على قطع الصحراء بين عدن وبحر الشام؟ اجاب قصي: نحن العرب، فالصحراء اختصاصنا، وهكذا ابتكر الجمل ترانزيتا انقذ التجارة الدولية من الحروب.

التجارة ربطت العرب بسرعة بالافكار وأشكال اللاهوت، وذروة الامر حصلت مع ظهور الاسلام، حين شعر زعماء الجزيرة انهم يمتلكون كل شيء الا الكتاب السماوي، وكان لهم ما ارادوا من مجد.

وطيلة القرن العشرين عادت روح قصي ودهاؤه للتأثير. ومنذ الخمسينات كان شيوخ القبائل في الجزيرة العربية يبدون براغماتية عالية تضع نفسها شيئا فشيئا على خارطة التجارة والسياسة التي يمثلها تحالف الدول الصناعية.

ان السياسة التي يديرها عرب الجزيرة اليوم، تكتنفها مشاكل وأزمات وأخطاء. لكنهم وبالمقارنة بالمحيط المتفجر والخاسر الذي حولهم، يمثلون لحظة استثناء ويقدمون أداء يستحق التوقف عنده طويلا.

فرغم كل ما نتذمر منه بشأن اسوأ انواع التشدد الديني المزدهرة في جزيرة العرب، فإن بلدا مثل السعودية ومعها كل الخليج، تمضي على خطى قصي بن كلاب عبر علاقات متميزة مع الغرب والشرق. وهي تعبر عن واقعية تثير حسدي كعراقي، فهي تتبنى المذهب الحنبلي والوهابي لكنها تمتلك روتانا وام بي سي. وتتبنى تشريعات تثير السخرية مثل منع المرأة من قيادة السيارة، لكنها تحتل المرتبة الاولى في انتاج الشاحنات بالمنطقة، كما يشير تقرير لشركة مان عملاق الصناعة الالمانية. وهي تجري عمليات فصل التوائم السياميين وتزرع العيون لاول مرة في الشرق الاوسط، ولا تغريها تجارة الصواريخ الصينية او العبور الى الفضاء حتى هذه اللحظة. لقد اختارت ان تتطور بهدوء يشبه هدوء الجمل الذي يقطع الصحراء بصبر وبطء وهذا ما سنشهد اثاره خلال العقود المقبلة نحن المحتارون بخراب البصرة.

وكما انطلقت مقلدا كلود كاهين من قصي في ملف جزيرة العرب، فإن بوزورغ مهر الحكيم الفارسي الذي تعتز به ايران كثيرا وتعده رمزا لعبقريتها، يمثل لي مدخلا نحو ايران.

الحكيم الفارسي بوزرغ مهر استاذ كسرى (خسرو)، تسلم مرة رقعة شطرنج كلعبة اخترعها الهنود لتحدي حكمة الفرس. أمضى الحكيم دهرا في فك رموزها، ثم نافسهم وابتكر "الزار" او النرد. والفرس لا يزالون وإن بشيء من الطيش، يلقون بـ"الزار" على لوح صعب. مرة ينجحون واخرى يخفقون لكنهم لاعب نرد لا يشق له غبار حتى في اشد لحظات هزيمتهم ألما.

ان جزيرة العرب المتسلحة بإرث من حكمة صحراوية اثبتت فاعليتها، تواجه بلاد فارس المستندة الى ارث الدهاء وادارة الامبراطورية. وكعراقي اشعر بحضور كل من البلدين بشكل قوي داخل صياغتنا كأمة. العراقيون في آخر 3 آلاف سنة بدا انهم يتأثرون اقل مما يؤثرون. جزيرة العرب وهضبة زاغروس كانتا حاضرتين بقوة فينا. فالعرب والفرس يستخدمون وادي الرافدين لاغراض متعددة ادركها الامويون والعباسيون القادمون من الجزيرة، وقبلهم يزدجرد وكوروش. كانت طموحات قصي تهبط من الصحراء نحونا، ودهاء الحكيم الفارسي ينزل هضبة زاغروس باتجاهنا. والتأثير لم يتوقف فقبل مائتي عام شهد العراق نزوحا كبيرا لقبائل عربية هاربة من نزاعات نجد والحجاز، كما شهد في الفترة نفسها نزوحا لعوائل دينية هاربة من اصفهان التي احتلها نادر شاه وأسقط دولتها الصفوية. التقى النازحان قرب شط الفرات، فظهرت خارطة دينية جديدة في العراق، وتوازنات سياسة مختلفة.

لقد أعيد تشكيل حضاراتنا العراقية عبر استخدام العرب والفرس لبلادنا. والامر يتواصل اليوم بأشكال مختلفة، فأي مواجهة بين جزيرة العرب والفرس ستصاغ على ارضنا بنحو ما. لكن اين كنا خلال اخر 3 آلاف عام؟

اننا نحتفظ بتفاصيل هائلة عن كيفية دخول الفرس والعرب الى بلادنا، بينما لا يوجد اي تسجيل مفصل لموقعنا من الاعراب لحظة دخولهم. فلم نعرف اين ذهب سكان العراق حين جاء كوروش لاسقاط بابل. او كيف اندثر الاكديون والاشوريون واين كان احفادهم حين دخل العرب وأسسوا البصرة والكوفة وبغداد؟ اين صاروا؟ هل حقا ان اكابر بغداد نزحوا الى القاهرة وطوروا مصر بعد غزو المغول وتركوا العراق بلا مواهب؟ وليت شعري فكأن التاريخ يسجل الكلام ويهمل الصمت!

ان عرب الجزيرة لا يزالون لاعبا ماهرا في اجتراح سيناريوهات المبادرة على مستوى دولي.  وكذلك احفاد حكماء الفرس. اين نحن من هذا خلال اخر 30 سنة؟ ان المشاكل تكبر وتفاجئنا في قلب المخدع العراقي. ونحن منقسمون نتفرج على مشهد نادر لصراع الارادات على شاطئ الفرات بين اولاد قصي واساتذة خسرو، دون ان ندري: هل نحن احفاد قصي (ومعنى اسمه الذاهب نحو الأقاصي)، أم تلاميذ بوزورغ مهر (ومعنى اسمه اللطف العظيم)، أم شيء ثالث لم يعترف به التاريخ بعد؟ ام ان "سومر قتلها تعدد الإلهة" وهذا مناسبة لمقال آخر له صلة بكوروش ايضا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. رمزي الحيدر

    سرمد الطائي المحترم .لا أعرف لماذا تستهين بدور العراقيين . ألا يكفي بأن نرفع رؤسنا بفخر بأننا صنعنا صدام حسين و نوري المالكي.!

  2. عباس راضي

    مبدع انت يا سرمودي .. اصبر صديقي علنا نحل هذا الطلسم ببقايا صبرنا على امة الجهل

  3. ثامر

    هاي اول مرة ما تذكر المالكي اشعجب! كانك في هذا المقال تريد ان تثول ان العراق يجب ان ينقسم الجنوب يذهب للشيعة والغرب يذهب للسنة حسب كلامك وبعدين بحكم دراستي ممكن ان نتاكد من اصولنا عن طريق اخذ عينة من dna الانسان العراقي في تلك الحقبة وعينة من dna الانسان

  4. الجبوري

    اعتقد ان السيد كاتب المقال نسى الحضارة العراقية بتاريخها الطويل منذ السومريين الى كل الامبراطوريات العظيمة في التاريخ العراقي الى نبي الله ابراهيم الذي نسطيع بحسب اطروحتك ان نؤسس على تشكيل حضاري مثله مثل قصي او الحكيم الفارسي ، لهذا نظرتك ذات افق واحد ونظ

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram