أصدر الباحث العراقي د. إبراهيم الحيدري كتابه الجديد الذي يحمل عنوان "النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة" الذي تناول فيه تطور الفكر النقدي منذ بواكير الفلسفة الإغريقية، مروراً بعصر التنوير الأوروبي وأساطينه البارزين وانتهاءً بحقبة الحداثة وما بعد الحدا
أصدر الباحث العراقي د. إبراهيم الحيدري كتابه الجديد الذي يحمل عنوان "النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة" الذي تناول فيه تطور الفكر النقدي منذ بواكير الفلسفة الإغريقية، مروراً بعصر التنوير الأوروبي وأساطينه البارزين وانتهاءً بحقبة الحداثة وما بعد الحداثة. ولمناسبة ترشيح هذا الكتاب الفكري القيّم إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد التقيناه فكان الحوار الآتي:
• متى بدأت الحداثة من وجهة نظرك، هل يمكن أن نردّها إلى اختراع الطابعة، أم لثورة لوثر ضد الكنيسة، أم للثورتين الفرنسية والأميركية في أواخر القرن الثامن عشر؟
-تشير الحداثة إلى حقبة زمنية معينة شكلت عتبة تاريخية هامة في تاريخ التطور الإنساني التي بدأت منذ نهاية القرون الوسطى وكوّنت سيرورة مستمرة من التحولات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية التي اجتاحت أوروبا وأنتجت انقلابات كبرى في مجال العمل والإنتاج وتقدم علمي وتقني متصاعد وحركة فكرية تنويرية في دوائر الفرد والمجتمع وأحدثت قطيعة بين الإنسان وماضيه وجعلت منه سيد الطبيعة.
إن بدايات الحداثة تحديداً تعود إلى عصر النهضة(اكتشاف الطباعة، حركات التحرر الدينية ضد الكنيسة، والثورة الصناعية والحركة الإنسانية) مروراً بعصر التنوير. كل ذلك مهّد الطريق لقيام الثورات البرجوازية التي تُوجت بالثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان.
• هل تعتقد أن النقد هو نتاج خالص لعصر التنوير وفلسفته العقلانية، وكيف تنظر إلى العصور السابقة لهذا التاريخ؟
-عصر التنوير هو عصر النقد بامتياز،كما أشار إلى ذلك "كانت". في ذلك العصر اكتسبت عملية النقد قوة تأثير حقيقية. وكان محرك النقد هو الشك في الحقيقة الكلية أو الجزئية. وقد أصبح النقد في العصر الحديث روح الحضارة ومحرك الإبداع، فهو الذي أخرج العقل البشري من كهفه وأوهامه وأذكى فيه روح النقد والنقد الذاتي ودفعه للتساؤل والمغامرة والإبداع. وبذلك أصبح النقد جدل العقل ومحاولة أولية جادة لفهم العالم وتفسيره. وهو ما طوّرعقلا نقديا يستطيع ممارسة دوره باستمرار لترسيخ ثقافة النقد التي هي في جوهرها نقد للوعي وللفكر والمجتمع، وفي ذات الوقت، نقد للنقد ذاته.
وبالرغم من أن عصر النقد ارتبط بعصر التنوير، غير أن جذوره تمتد إلى الفلسفة الإغريقية التي مثلت أول مغامرة فلسفية في الفكر الإنساني للبحث عن علة الأشياء. كما ساهمت الحضارة العربية الإسلامية في إثارة الجدل في كثير من القضايا الإِيمانية كخلق القرآن، كما عند المعتزلة، إلى جانب النقد الأدبي والعلمي.كل تلك الأفكار النقدية كوّنت اللبنات الأولية لتطور الفكر النقدي في عصر التنوير.
• إلى أي مدى يستطيع النقد أن يفسر النصوص الدينية تفسيراً عقلانياً، وهل تعتقد أنه قادر على مسّ الثوابت الدينية المقدسة في عالمنا العربي والإسلامي؟
-هناك صعوبة في ممارسة النقد والنقد الذاتي في المجتمع الأبوي البطريركي، وخاصة في المجتمع العربي، الذي هو أكثر أبوية من المجتمعات الأخرى. ولذلك لابد من كسر هذا الحاجز الذي يقف أمام مماسة النقد بحرية والبدء بحركة نقدية جذرية تبدأ بنقد الذات أولاً، ثم التراث الذي يقوم على النقل وليس العقل ثانيا، ونقد الوافد الجديد، الحداثي وما بعد الحداثي، ثالثا. وعلينا طرح جميع القضايا التي تخص التراث، وخاصة ما يرتبط بتفسير النصوص الدينية تفسيرا نقدياً عقلانياً، كما قام به علماء الكلام وإخوان الصفا والمعتزلة في القرنين الثاني والثالث للهجرة في طرحهم كثير من القضايا الإيمانية للحوار والجدل والنقد للتحقق من صدقية الحديث وتدوينه وكذلك النص القرآني وشرحه وتفسيره،وهذا لا يتعارض مع الثوابت الدينية المقدسة.
• كيف تنظر إلى المعتزلة بوصفهم أناساً مجّدوا الفكر العقلاني والتنويري، وشكّلوا المقدمات الأولية لعلم الكلام؟
-جسّدت النزعة التنويرية في فكر المعتزلة التحليلي المستقل البدايات الأولى لنشوء الفلسفة العقلانية في الإسلام، حيث صاغ المعتزلة ولأول مرة المسألة الدينية صياغة عقلانية واضحة لا تقتصر على تناول وحدانية الله وحسب، وإنما تناولت الإيمان والنبوّة والأخلاق، فلم يعد النقل محور المعرفة، وإنما العقل، الذي شكّل تحولاً حاسماً في الفكر، حيث أخذ المرء يخضع الوجود كله لمقاييس العقل وأحكامه والتأكيد على الحرية، فلا عقل دون حرية ولا حرية دون عقل.
إن إعطاء المعتزلة العقل هذه الأهمية الأولية يعني رداً على الذهنية النقلية التقليدية التي تقول بعجز الإنسان عن بلوغ الحق والخير بالعقل الإنساني.إن هذه الأفكار العقلانية التنويرية شكلٌت المقدمات الأولية لعلم الكلام الذي ارتبط منذ نشأته الأولى بمشاكل المجتمع.
• كيف تنظر إلى قصور الإنسان العربي أو المسلم الذي يتشبث بالتفكير الغيبي والأسطوري ولا يسعى إلى تحرير نفسه من الأوهام؟
-إن قصور الإنسان العربي الذي يتشبث بالتفكير الغيبي والأسطوري وما اقترفه بحق نفسه ناتج عن عجزه عن استخدام عقله بشكل صحيح. ولا يعود القصور إلى علة في العقل، كما يقول كانت، وإنما إلى عجز الإنسان عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، وذلك بسبب فقدان الشجاعة لرفض توجيه الآخرين ووصايتهم عليه،رغم أن الطبيعة حررته من كل سلطة ووصاية خارجية. فالإنسان يجب أن يكون حراً في استخدام عقله وأن يكون مسؤولاً عن قصوره عند تشبثه بالتفكير الغيبي والأسطوري. والحقيقة هناك شعوب عديدة خرجت من قصورها العقلي وأخذت تفكر بمسؤولية وشجاعة واستقلالية دون وصاية الآخرين. وعلى العرب والمسلمين أن يتحرروا من كل وصاية إذا أرادوا أن يتقدموا علمياً وتقنياً وحضاريا.
• هل تعتقد أن الجمال الفني هو أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج الروح كما يذهب هيغل؟
-الجمال الفني هو أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج الروح، وما دام الروح أسمى من الطبيعة، فان سحره ينتقل بالضرورة إلى الإنتاج الفني. وأعلى أشكال الفن، كما يقول هيغل، هي تآلف الروح، وهو أكثر إشراقاً من جمال الطبيعة.
والحقيقة فان هيغل لا يتوخى تحديد مفاهيم وقواعد فنية، بقدر ما يريد التقاط اللحظات الأساسية التي كونت الجميل والفني على مدى التاريخ.ولذلك اعتبر هيغل "الوضع البطولي" هو الأكثر ملاءمة للإبداع الفني، بمعنى "المثال الحقيقي"، منطلقاً من الوحدة بين الذات والموضوع. كما يتفق أدورنو مع هيغل في أن الفن الحديث وصل إلى مأزق لأنه صار أسير تناقضات"المجتمع البرجوازي" التي لا يمكن حلها إلا بتأكيد المثل الأعلى الجمالي والحرية التي تعتمد عليها..
• ركزت كثيراً في كتابك "النقد ما بين الحداثة . ." على أبرز أعلام مدرسة فرانكفورت أمثال هوركهايمر، أدورنو، ماركوزه، فالتر بنيامين، إريك فروم وهابرماس، ألا تعتقد أن هابرماس كان الفيلسوف الأكثر إثارة للجدل خصوصاً في ما يتعلق بثورة الجينيوم والتلاعب بالأجنّة؟.
إن التعريف بمدرسة فرانكفورت وروادها بعجالة، أمر ليس بهين بعد أن أصبحت اليوم أساساً لأغلب النظريات والاتجاهات النقدية في الفلسفة وعلم الاجتماع التي مثلت جيلاً غير اعتباري،ولم يبق من روادها الأوائل أمثال( هوركهايمر وأدورنو وماركوزة) سوى هابرماس الذي يعد واحداً من أهم المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع النقديين في أوروبا.
وهابرماس هو الأكثر إثارة للجدل من غيره لأنه طور النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في محاولة لوضع أسس لنظرية نقدية تواصلية تضع حلولاً عقلانية لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع الحديث، وفي مقدمتها إعادة كتابة مشروع الحداثة الذي لم يكتمل، والذي يعني به، نقد الآثار السلبية التي أفرزتها الفلسفة الوضعية والعلموية كتبرير إيديولوجي للعقلانية الأداتية الخاصة بالنظام الرأسمالي الذي يقوم على الضبط العقلاني والسيطرة، وهو ما قاد إلى أزمة الحداثة ونكوصها عن تحقيق ما وعدت به.
إن مشروع هابرماس لإعادة بناء عالم عقلاني إنساني ومنظم يقوم على "العقل التواصلي" الذي يعمل على ردم ثغرة اليقين الوهمي الذي أعاق التساؤل عن السلطة التي تمارسها التكنولوجيا على الإنسان التي تحولت إلى سيطرة الإنسان على الإنسان والتي من مظاهرها العولمة المتوحشة والعنف وثورة الجينيوم البشري التي أدت إلى التلاعب بالأجنة.