(1)خمسون عاماً من القهر، رسمت تضاريسَها في جبين وطننا، فعفرته، وشوهت ملامحه، وحولته الى مساحة مفتوحة لاحتفالاتٍ جنائزية صامتةٍ، ندفن فيها موتانا، ونحن نَتَلَفّتُ، مرتابين من اعلان موتٍ شامخٍ، أمرَ الجلاد ان تضاف جنايتها على "مجهول".!كان مفتتح
(1)
خمسون عاماً من القهر، رسمت تضاريسَها في جبين وطننا، فعفرته، وشوهت ملامحه، وحولته الى مساحة مفتوحة لاحتفالاتٍ جنائزية صامتةٍ، ندفن فيها موتانا، ونحن نَتَلَفّتُ، مرتابين من اعلان موتٍ شامخٍ، أمرَ الجلاد ان تضاف جنايتها على "مجهول".!
كان مفتتح عصر تسجيل الجريمة ضد "مجهول"، قد بدأ باغتيال الوطن، واستباحة ناسه في وضح النهار، صبيحة الثامن من شباط عام ١٩٦٣، وتباهى حزب البعث لحظة الاغتيال قبل نصف قرن بأنه صاحب الذبيحة المتناثرة دمها في كل المسارات المفضية الى كل ركن من ارجاء العراق الذبيح. وتلك كانت المرة الاخيرة، خلال نصف قرن، لا تُسجل الجريمة فيها ضد مجهول.
ومن تلك اللحظة ايضاً، اتخذت الكلمات معانيَ جديدة لها، وتلفعت القيم بعورات ابطالها، وقد عرف العراقيون يومها، ان "الساقطة" التي حملت سكين الذبح في ٨ شباط، تَسَمّت بـ"عروس الثورات"، وخلال خمسة عقود مضت جزافاً وكمداً واصطباراً على إلغاء تاريخٍ مكتظٍ بالمآثر العظيمة، بدا العراقيون كما لو انهم انقلبوا على أنفسهم، وتنازلوا طوعاً عن ملامحهم وهوياتهم ومآثرهم، وأصبحوا بلا كراهةٍ منهم، صدىً لماضٍ بلا هويةٍ ولا مآثر ولا سجلٍ يدلُ على وقائع وأحداث، بلا هواية للفرح والامل والانشراح. وحتى حين بانت في الأفق بداية زمن يبشر بالرؤيا ويفتح باب الفرج، سُجِّلَ اغتيال هذا "الأفق" من جديد ضد مجهول!. وبدأت دورة قهرٍ مضمخٍ بالقهر بأدواتِ مختارٍ، يحمل شارة القداسة المزيفة على جبينه، ويخفى تحت معطفه القديم هوية البعثي القديم، كمهووسٍ ومترفعٍ على الضحية، ومتحاملٍ على الهوية الوطنية، التي تُضيّق الفسحة على طمعٍ لا يتسع له وطن ضاقت به سبل الغربة والاغتراب من ذاته المأسورة الكظيمة.
(٢)
اليوم الجمعة، الثامن من شباط، ٢٠١٣ في الساعة السادسة مساءً، يعود محمد الحبوبي، مسجّىً من مغتربه الى أربيل، ليدفن فيها، احتراماً لوصيته. وكعادة أبناء جيله ممن عاشوا غربتين وغيبتين، غربة داخل وطنهم المقهور، وغربة قسر المستبد في المنافي، لم يكتبوا أسرارهم، كما أحلامهم وتشوّفاتهم، سوى ما تناثر منها بين الأصدقاء الخلصاء. ولم يتعمدوا ذلك، تعالياً، او استئثاراً، بل إحساساً، بأنهم يتشاركون حكاية المرحلة الممتدة منذ أول اغتيالٍ للوطن مع جيلٍ كاملٍ، عرف الخيبة وسرائر مستبديه. ومن كثرة العثرات وتغييب معاني الكلمات التي تُعَرّفُ بالقيم العليا، ومفردات هوية الوطن، أصرّ على الاحتفاظ بصفة رأى فيها اختزالاً لهويته ومطامحه وتطلعاته. قَبلَ ان يكونَ "ديمقراطياً" دون أي إضافة، متوسماً في أن يعبر بذلك عن هويته التي مزقتها ذئاب الطوائف والمذاهب والانحيازات المنطوية على الكراهية والانغلاق.
كان محمد خَلَف أسرة الحبوبي، وفيها جدٌ عَلَمٌ، واخوةٌ واقارب منذورون لقيم توارثوها، واشاعوا مفرداتها بين مجايليهم عبر اجيال متعاقبة. لكنه فضَّلَ ان يظل مشدوداً لإيمانٍ، ترفع به عن امتداداتٍ تضفي على قامته ما هو لغيره، وتغطي على قامته، وما هو لنفسه وذاته. ورغم انه شبَّ قومياً ناصرياً، فقد رأى ان يضع مسافة تمييزٍ له، بعد انهيار الحركات الكبرى في العقد الاخير من القرن الماضي، وتحول " القومية " الى هوية وشعار المستبدين في بلدان "التحول الوطني"، وما ألحقوه من تشوهاتٍ على انبعاثاتها الأولى وما اُفترضَ فيها من أمانٍ وتحولاتٍ في مصائر الأمة.
(٣)
لم يستنكف محمد الحبوبي، القومي الناصري في دخيلته الاولى، الديمقراطي بفعل التجربة والمعايشة الصادقة في خضم عواصف التغيير الهوجاء، مثل آخرين، لطالما تفاخروا "بالقومية" و"الوطنية"، وحملوا راياتهما بالمعكوس، من الانتقال الى بغداد مع أول لحظات سقوط الصنم، تاركاً وراء ظهره، الاتهام للعراقيين الذين رأوا في سقوط الاستبداد دون خيارٍ منهم بقوة الاحتلال، خيانةً ونكوصاً عن التاريخ والنضال.
وفي بغداد، كان يُشعِرُك بانه قد استعاد، كديمقراطيٍّ هويته الوطنية، كلما تواصل مع مشهد نضاليٍ يقاوم سياساتٍ تتجلى فيها من جديد مظاهر الانحدار نحو الدكتاتورية. هكذا كان الحبوبي، يكتشف ذاته، في كل يومٍ يسير فيه وحيداً بلا حماية لينظم الى المتظاهرين في ساحة التحرير، غير مبالٍ بتحذيرات الأصدقاء.
ولم تكن لعودته، مثل غيره ممن سرعان ما نبتت لهم لحىً، وبانت على جباههم أختام التقوى الزائفة، علاقة بطلب امتيازٍ أو جاه أو منصب. لقد ظل متسامياً على هذه الصغائر، معتذراً عن الكلام فيها، مترفعا عن تناولِ غيره، طاوياً حسرته في سريرته على تهاوي القامات، ومظاهر الإسفاف والفساد والتلوّن والارتداد على القيم الوطنية، والانزياحات الكبرى نحو مراتع الهويات الفرعية، ومباءات الانحيازات الطائفية والمذهبية، والانحدار في خرائب القتل على الهوية، واتساع كانتوناتها.
كان يزداد اغتراباً عن بغداد، كلما اتسعت مشاهد الرفض الطائفي للآخر، وحيثما اصبح الولاء للطائفة، انقطاعاً عن التفاعل مع القيم الإنسانية التي، يضيق الوطن على رحابته بمواطنيه بدون التمسك بها وتكريسها لتُصبح معياراً للوطنية وتخليقاً لقيمها السامية.
وكان في كل توجهاته وهو يستعيد ذكريات عوالمنا الماضية المغيبة عن جيل، يتعثر بالمفردات الجديدة ويتيه في نسيجها الطائفي، مشدوداً الى لحظة انبعاثٍ تشكل خلاصاً لمستقبل أجيالنا، من ماضٍ تراكمت فيه الخيبات وضاقت فيه مساحة الوعي والحكمة.
ومات بحسرته، على ضياع تلك اللحظة وسط خرائب الطائفية والفساد والشراهة على مغانم الحكم.
(٤)
في موته، كما في حياته، حرص محمد الحبوبي، على إعادة تأكيد انحيازه للمفاهيم الاولى التي تصور انها تجسد معاني الانتماء الى الوطنية العراقية. ورأى ان التغيرات المُقحَمة على المشهد العراقي، هي خروجٌ قاتل، وترويجٌ سافرٌ وغاشمٌ لكل ما هو في تعارضٍ مع المصالح الوطنية العليا. هكذا اشتد عليه القهر وهو يتابع انحدار السلطة ونزوعها أكثر فأكثر إلى مهاوي الانفراد والتسلط والتعالي. وتعمق الإحساس بالإحباط واليأس في أعماقه، وهو يستمع إلى نذائر التلويح بالحرب القومية، العربية - الكردية، وخيارات هدم العراق على من يقف في طريق السلطان الجائر المتعطش للسلطة.
وفي كل مرة نلتقيه وهو على فراش الموت المؤكد، كان وجهه يُشرق بابتسامة المتأمل المرغم على تفاؤلٍ موجع، مردداً، بهمس دعوى محبٍ لن يرى وطنه كما استهلك حياته في سبيل ذلك، لكنه لن يعيش مرحلة خرابه على ايدي من يمكن أن يسترجعوا مشاهد بغداد وهي تتقطع أوصالها وتتفكك إلى أجزاء تتقاسمها أشباه رجالٍ، جاءوا من الصدفة العاثرة ليصغر بحكمهم اماني الوطن.
(٥)
في موته حرص الحبوبي ان يُدفن في اربيل، وهو الشيعي المحب لمدينته وللاولياء فيها، غير المتنكر لانتمائه، لكن العازف عن التماهي مع مدعي حمل ظلمه التاريخي، وما تستدعيه من ظلم وتجاوز وتعدٍ.
كما انه يختار مرقده الأبدي في عاصمة اقليم كردستان، لِيرد بذلك على دعاة الحرب القومية، واصحاب المطامع ونوايا اقتراف جريمة اغتيال الديمقراطية والامل المضيّع وتسجيلها على مجهول.
وليس صدفة ان يوارى محمد الحبوبي، الناصري، القومي، العربي الشيعي، اليوم "السبت" في متربه بكردستان، بعد أن أوصى الشيوعي سالم عبيد النعمان "العربي السني" ان يدفن في كردستان أيضاً، ليتمما سوية، المعاني الحقيقية للوطنية العراقية التي تتجاوز، ما يريد البعض إشاعته بين مواطنينا من قيم التقاطع والعودة إلى الكراهية التي بذر نواتاتها الأولى في صبيحة ٨ شباط ١٩٦٣، ولم يتم حتى الآن طيّ صفحاتها السوداء بعد.
لكن حالة الاغتراب والانبعاث، لا تتوقف عند وصية الفقيدين النعمان ومحمد، فالجواهري العظيم، لم يجد في العراق الفسيح مكاناً يمجد قامته، ليس بوصفه شاعر العرب الاكبر، بل وحتى كسليل أسرة عريقة بمآثرها العلمية الدينية والأدبية في النجف، الا في مكانٍ مضيءٍ فسيحٍ كما العراق في حديقة سامي عبد الرحمن
بأربيل، حيث افتتح له نصب تذكاري هناك احتفالا بمئويته وشفع بتمثال آخر احتضنته احدى حدائق السليمانية
ويتكامل المشهد، اذ لا يجد شاعر بقامة مظفر النواب تكريماً له في بغداد، بل في إقليم كردستان حيث يصبح وزيراً، ليظل المالكي مكتفياً باحتفائه بأذناب عدي، ويستعيد الى صفه مشعان الجبوري والعشرات من حرس ومخابرات وفضلات صدام حسنين ويصطفيهم إلى جانبه، ليسدوا بماضيهم أبواب الأمل على العراقيين
ويا لحسرة المثقفين والعلماء والمبدعين العراقيين، إذ يرون خيرتهم ممن يتباهي بهم العالم العربي، ويتنافس على التقرب منهم واحتضانهم، وهم يلاحقون ويعتقلون ويهملون، بينما يتسع المقام للقتلة والمجرمين واللصوص من بقايا البعث ونظامه الدكتاتوري، فتجدهم يزينون مجلس السلطان الحاكم بمحض الصدفة، ويتقرب هو اليه ويحتمي بماضيهم المخجل متوهماً أنهم ينحازون إليه.
(٦)
أنت ماضٍ في غيبوبتك الأبدية، صديقنا محمد، وقد تركتنا، نحمل عنك وعن جيل مهموم يتلفت باحثاً عن بارقة أملٍ تعصف بأشباه الرجال والحكام، لعلهم يستعيدون لحظة حياة طال انتظارهم لها.
نم قرير العين، فعيوننا مفتوحة على أمانيك التي خلفتها فينا..
تدثر بوطنيتك، ولا تخف من لصوص المقابر، بعدما اتخمها فساد الذمة، وصار لها في الدولة مكانٌ أثير..
محمد الحبوبي، ونحن ننعيك، عيننا على لحظة موتٍ يفتح باب الفرج والأمل لمن يبقى بعدنا متفتحاً على الحياة.
جميع التعليقات 4
بيان
ترتقي يا أستاذ فخري كريم في كلماتك الادبية وانت تدافع عن الوحدة الوطنية التي طالما ركز عليها المرحوم والدي التي تمر ذكراه السنوية في 22 شباط وقد سألته يوما-قبل 9 سنوات- عن الامل الذي تنشده في خاتمة مقالتكم فأجابني ببيت للمتنبي (نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ ..
hayfaalaloosi
جميل النعي لمن يستحقه ولكن عتبي على الذين يصمتون حين يتوفى مناضل قدم عمره وحياته وفاءا ونضالا لوطنه وحزبه ومعتقده وحين يتوفىلا يذكر بكلمة ولا اقول سطرا لا من رفاقه السابقين وانت استاذ فخري منهم ولا من حزبه ومن يحمل مبادئه وهذا ما يحز في النفوس وزوجي رحمه
اياد علي مراد / بخارست
تعرفت على المناضل المرحوم محمد الحبوبي في صيف عام 2000 وقد عرفني اليه رفيقه في النضال السيد عادل مراد فالف رحمة على روحه الطاهره ونم قرير العين بين احبابك الكرد في كردستان
اياد علي مراد
هل يجب في تعليقاتنا ان نكيل المديح الى الاستاذ فخري كريم حتى تنشرو تعليقاتنا اكتب لكم لانكم لم تنشرو تعليقي منذ الصباح وانا انتظر ردكم