الاحتفاء بعبد الكريم قاسم، بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله، جدد التأكيد على أنه الزعيم الأكثر شعبية في تاريخ العراق الحديث. وهذه حقيقة لا غبار عليها، تقابلها حقيقة أخرى هي أنه رغم شعبيته لم ينعقد الإجماع الوطني حوله. والواقع ان مثل هذا الاجماع لم يتحقق في تاريخنا الحديث الا مرة واحدة حول الملك المؤسس.
وقد أخذ الاحتفاء هذه المرة بعدا واحدا. اذ كاد يقتصر على التمجيد. وتناول الشخصيات التاريخية بهذه الطريقة لا يساعد كثيرا على فهمها. الأمر الذي يقلل من فائدتها. فالفائدة من الذهاب الى التاريخ لا تتحقق بالتمجيد، وانما بفهم أفضل يساعد على تحسين الحاضر والمستقبل. فهذا هو هدف معرفة التاريخ.
إن هناك الكثير من الأسباب التي جعلت قاسم زعيما محبوبا. وظروف الحاضر تعضُّد هذه الأسباب وتقويها. وأهمها تجرده التام من الطائفية ونزاهته المادية المطلقة. وكلما كرهتَ الطائفية السائدة والفساد المستشري اليوم ازددت حبا وتقديرا للرجل. أضف الى ذلك عوامل مهمة أخرى منها أنه أول رجل من أبناء البلد يحكم العراق منذ أكثر من ألفي عام، ثم عاطفته الجياشة تجاه الفقراء، وتقدميته الاجتماعية التي عبرت عن نفسها في قانون الأحوال الشخصية، وبالجملة صدق نواياه في خدمة الوطن.
إن اسوأ خصوم قاسم، بمن فيهم قتلته البعثيون، يعترفون بكل مزاياه هذه وبوطنيته.
ولكن أهم ما يفترض أن نكون قد تعلمناه من تجارب العراق الجمهوري هو أن مقياس تقييم الساسة والسياسات يتجسد بالموقف من "فكرة الثورة" و"حكم القانون". هل أنت مع فكرة الثورة وما الغايات أو الأهداف منها؟ وهل أنت معها في كل وقت أم في ظرف استثنائي فقط؟ وهل يمكن أن يكون هناك نوعان من الثورة، الأول اضطراري لا بديل له، والثاني اختياري يمكن الاستغناء عنه؟
والحال فإن الإيمان بفكرة الثورة، اضطرارية أم اختيارية، يعطي هذا النوع المثير من أعمال السياسة بنظر معتنقيه ما يعرف بالشرعية الثورية. وقد يكفر المؤمنون بالثورة اذا جاءت نتائجها سيئة، وقد يستمر ايمانهم بها بمعزل عن النتائج واستنادا الى أسباب، أو حتى من دون أسباب، لأن الايمان يبلع المعرفة أحيانا، ويكون عمياويا. لكن هناك من يعارض فكرة الثورة في كل الأحوال، أو في بعضها، ويؤمن بـ "حكم القانون" الذي تطيح الثورات عادة به اذا كان موجودا. أما اذا لم يكن موجودا وكان الوصول اليه متعذرا من خلال النظام القائم فعندها قد يشرِّع الثورة، بهدف اقامة حكم القانون. وفي هذه الحال تكون الثورة بنظره اضطرارية، مثل الجراحة التي يلجأ اليها الطبيب عندما تفقد العلاجات الأخرى جدواها.
هل كان اضطرارا أم خيارا ذلك الانقلاب العسكري الذي قاده قاسم، وتحول الى ثورة، بفعل التغيير الجذري الذي تسبب به، وبفعل وقوف القسم الأكبر من الحركة الوطنية خلفه؟ وهل النتائج التي ترتبت عليه سيئة أم جيدة؟ وما هو المقياس الذي نحكم من خلاله بالسوء أو الجودة على الانقلاب أو الثورة؟ أهو حكم القانون أو الديمقراطية؟ أم ما تحقق من منجزات في الخدمات، من أمن وسكن ودخل ونقل وتعليم وصحة وزراعة وصناعة والى آخره؟
إن اجاباتنا على هذه الأسئلة لازالت خلافية. ولعل أغلبها يعبر عن وقوف أغلب فكرنا مراوحا في مكانه عند مرحلة الخمسينيات، مرحلة "التحرر الوطني" التي عم فيها اعتبار فكرة الثورة طبا شافيا وعلاجا سحريا لكل المشكلات. والقليل من فكرنا يعارض هذه الوجهة بهذه الدرجة أو تلك من درجات المعارضة.
والحقيقة غالبا ما تكون بسيطة ولكن رهيبة أيضا. ولعل حقيقة ثورة قاسم والضباط الأحرار والحركة الوطنية، أي ثورة 14 تموز، هي انها كانت نية طيبة عبَّدت الطريق الى جهنم، شأنها في ذلك شأن ثورات كثيرة في التاريخ.
جميع التعليقات 2
كاطع جواد
لكل عمل مهما كان ناجحا هفوات قد تكون كبيرة او قد تكون صغيرة لكن الهفوات تبقى هفوات فالزعيم عبد الكريم قاسم رحمه الله كان ولا زال زعيما وطنيا بإجماع كل الشرفاء من العراقين وهذا هو المهم لكنه وقع في هفوات كما أسلفت وهو انه لم يسرع بحكم القانون واعني تسليم
فاروق الشمري
الاخ العزيز احمد المهنا...كم اتمنى لوكا عمري يوم 14 تموز40 عاما وليس 17 عاما...لقد عشت تموز بكل تجلياته .. ان احتفالية بيت المدى يوم 8 شباط ذهبت بعيدا وبعيدا جدا في تقييم قاسم وكانه رسول العنايه الاهيه..وما قدمه للشعب العراقي منخيرات ونعم...نعم ان قاس