TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > القاهرة: في الشَرَك!

القاهرة: في الشَرَك!

نشر في: 10 فبراير, 2013: 08:00 م

المدينة التي رأيتها في شبابي المبكر تتماثل مع سحر نثر طه حسين وعقلانية سلامة موسى، صارت اليوم غباراً، تلوثاً، ضجيجاً، زحمة واحتقاناً دينياً. كانت سفرتي إلى القاهرة بنت الصدفة. فقد جئتها من مسقط، بدل التوجه إلى لندن. في انتظاري وجدت معرض الكتاب، ووجدت احتجاج المصريين في ساحة التحرير.

في معرض الكتاب، الذي كان بلا دليل، تجولت أبحث عن ملامح الماضي الثقافي الذي أغنى معرفتي أيام الصبا والشباب المبكر، أملاً في أن أجدها تنتظرني على أغلفة المنشورات المألوفة لدي آنذاك: كتابي، كتاب الهلال ورواياته، أعلام العرب، إقرأ، الألف كتاب، المسرح العالمي، كتاب الشعب، تراث الإنسانية. ومجلات: الفكر المعاصر، المجلة، الرسالة، الثقافة، السينما والمسرح ، والطليعة.. أشتري معظمها كل شهر لأنها زهيدة الثمن، وأقرأ معظمها كل شهر لأنها كانت ثقافة جيل متعافي العقل، خرجت حداثته من رحم النهضة أو ما تبقى منها، قبل أن تتمكن مرحلة الانقلابات الثورية وعتمة العقيدة من حرق جذورها.

    زرت معرض الكتاب مرتين، فالطريق إليه طويل وخانق. ولم أدخل قاعات ندواته مرة واحدة. القاهرة جعلتني غير مبال. أسقطت المعنى من الكلمة، ومرّغته في الوحل.

وفي ساحة التحرير صرخة احتجاج معلنة، مقابل صرختي المكتومة، على ما حدث ويحدث. والذي يحدث يتقاسم زقّومه العرب جميعاً. الإسلاميون يغفلون أن لكل عقيدة عبر التاريخ وجهين، يشبهان قناعيْ الدراما: قناع باكٍ وآخر ضاحك. كالح ومشرق. أمرهما منوط بالمرحلة: متداعية أو صاعدة. مرحلة انهيار ومرحلة نهضة. والإسلاميون يغفلون، وهم يعترفون شأن الجميع بأن مرحلتنا متداعية ومنهارة منذ زمن، بأن وجه العقيدة قد تلبّس قناع الدراما الباكي، الكالح. مثاليتهم لا تسمح لهم برؤية أبعاد هذا القناع: القبح، الكراهية، العمى... كانت المسيحية الغربية في عصور انحطاط الغرب ذات مخالب دامية. في ازدهار الغرب الحضاري تحولت إلى زهرة مبتهلة. صرخة الاحتجاج تبدو في الظاهر سياسية، ولكنها في الأعماق إنسانية وحضارية. فالمصري، شأن العراقي، مطمئن لإيمانه الديني في قلبه وعقله، ومطمئن عليه. ما يريده لنفسه، وما يريده له الدين هو الخبز الكريم، والعيش بحرية تليق بالإنسان. أما الآخرة فمعقودة بإرادته هو، ولا تحتاج إلى دليل مدفوع الثمن.

كنت أتجنب الكيلومتر المربع الذي يضم ساحة التحرير. ودونه تظل القاهرة هادئة، مستسلمة عن غير إرادة لشِباك الزحمة، الضجيج، التلوث الجوي والغبار. خمسة وعشرون مليون كائن حي يتخبطون في شرَك الشباك دون مخرج. كل حي وكل شيء يتحرك على هواه دون هاجس من نظام. وكنت أتعمد التخبط وسط الشِباك. أجرّب سيارات التاكسي وأحاور سائقيها. وأقتحم الكتل اللحمية في الباصات الكبيرة، وأزاحم الأكتاف في الترام وفي الميكروباص، وأُسحر بالتوك توك الصغير، أنفرد بسائقه الذي يقوده كدراجة نارية. مع الجميع أتحدث وكأني أحاور أبطال فيلم مصري.

في قلب القاهرة، التي كانت قاهرة ذات يوم، تتقشّر العمارة المجيدة، وكأنها مصابة بالجُذام. الحجارة التي تسقط لا تُعاد إلى مكانها، والصيانة مفردة أمست قاموسية، ولا حياة فيها. حول قلب القاهرة أحياء تُبنى على هوى المقاولين. مواليد شائهة تخرج من رحم الفساد الذي يحتضن البلد برمته. 

    مصر هبة النيل حقاً. فالنهر في القاهرة رحب، كريمٌ، فياض ينقسم على نفسه كل خطوة ليشكل جزيرة. ولكن ما إن تبتعد أرض مصر عنه حتى تعرى، تجف وتتعالى غباراً. الأهرام مهجور، لم أستطع أن أقربه بسبب سوء تصرف الأدلاّء وفظاظتهم. الأحداث وسوء التصرف حرمت خزانة مصر من أكبر مواردها وهي السياحة. الطائرة التي عدت بها إلى لندن تكاد تكون خالية، والعاملون فيها خالون من الهمة بدورهم.

    كم من السنوات تحتاج مصر لكي تسترد عافيتها؟ كم من السنوات يحتاج العراق؟ الصوت والصدى في داخلي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

(المدى) تنشر نص قرارات مجلس الوزراء

لغياب البدلاء.. الحكم ينهي مباراة القاسم والكهرباء بعد 17 دقيقة من انطلاقها

العراق يعطل الدوام الرسمي يوم الخميس المقبل

البيئة: العراق يتحرك دولياً لتمويل مشاريع التصحر ومواجهة التغير المناخي

التخطيط: قبول 14 براءة اختراع خلال تشرين الثاني وفق معايير دولية

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram