أتذكر فيلما جميلا لآل باتشينو وأنا أنشغل مع كثيرين في قياس الزمن السياسي بين ٢٠٠٣ و٢٠١٣، وتأمل ما يجري مع الفاضل مدحت المحمود ومعناه. كما أتذكر فقرة عن المالكي والأفلاك نشرتها في الماضي. قبل سنتين كتبت: "هل تعبث الأفلاك هذه الأيام بتوقيتات رئيس وزرائنا وتجلب له النحس؟ لماذا خسر رئيس الحكومة آخر معركتين خاضهما على مسرح البرلمان؟ أتذكر أنه لم يخسر معركة قط منذ انتخابات ألفين وعشرة (رغم انه مر بأوقات صعبة جدا)، فماذا يحصل معه هذه الأيام؟
ما الذي يحصل مع المالكي وهل بدأ نجمه يعاني من "تقاطع أفلاك غريبة" ستدخله في موسم خسارات، بعد أن ضمنت له شهورا طويلة من الانتصارات المتواصلة؟ أم أن خصومه نجحوا في جعله يتعب؟ يقال انه أكثرهم مثابرة وعملا وأقلهم نوما وأزهدهم بمتع الحياة. لكن أعواما عديدة مرت من المواجهات التي لا تنتهي مع خصوم ليسوا قليلي حيلة طبعا، تجعله يلهث. هل بدأ التعب يدب إلى أوصاله، ويجعل قضايا كثيرة تغيب بتفاصيلها الدقيقة عن ذهنه أو ذاكرة فريق الداعمين الذي أدار كل المعارك بنجاح نسبي طيلة سنوات؟ وفي المحصلة فإن عدد المعارك تزايد في الآونة الأخيرة، وربما حمّل الرجل نفسه أكثر من طاقتها".
إن هذا الوصف يصلح كثيرا لاستخدامه مع لحظة المالكي الراهنة، التي يكتب فيها أشد قصائده حزنا وعزلة.
قبل شهرين قام البرلمان بتحدي إرادة المالكي وأقر قانونا أغضب دولة القانون. المالكي ظل سعيدا لسنوات بوجود رجل واحد في رئاسة القضاء ورئاسة المحكمة الاتحادية، كالفضل بن سهل الذي لقب بذي الرياستين. الفاضل مدحت المحمود وصبيحة الثلاثاء تخلى عن الرياستين واحتفظ بواحدة تطبيقا لقانون أقره تنسيق عال بين الصدر وعلاوي وبارزاني فصل الرئاستين عن بعضهما. المالكي الغاضب توعد خصومه بالطعن والإلغاء، وبعد شهرين لم يسعفه الحظ إلا للامتثال، فالأفلاك ليست معه هذه المرة، وتحالف ١٩ أيار (أو تحالف أربيل- النجف) ظل يجهز له الضربة تلو الأخرى. الضربات بدت خفيفة لأول وهلة وتعرضت لسخرية على نطاق واسع ،وكانت الناس تسأل: من يصدق أن هؤلاء سيهزمون السلطان. كانت الناس تريد أن يصرع البطل في جولة واحدة. وكان خصوم المالكي يتعلمون من الـ باتشينو في فيلم لا أتذكر اسمه. ظل المدرب يلقّن لاعبي البيسبول أن المعركة الناجحة الصابرة تقوم على مبدأ كسب الأرض سنتيم فسنتيم. معركة السنتمترات بالصبر تؤدي للوصول إلى المرمى.
وهكذا وبدل أن يطعن المالكي في القانون كما توعد، فإن صوت المتظاهرين في الغربية قدم مساندة كبيرة لفريق ١٩ أيار وجعل المحمود يتخلى عن الرياستين ويخيب ظن السلطان.
إن الفصل بين المنصبين أو الرياستين في جهاز المحاكم الحساس خطوة أولى أو سنتمتر جديد بمصطلحات الـ باتشينو، تواصل خلاله المعارضة بناء ضمانات التعددية السياسية والشراكة المسؤولة بوجه رغبة المالكي في إرساء ركائز حلمه بالواحدية المتفردة.
إن معسكر التعدد السياسي الذي يتسع ليشمل معظم الشرق الأوسط اليوم، يتعزز في العراق رغما عن أحلام الفريق السياسي والعسكري لسلطاننا. ولذلك فإن الصديق قيس حسن يقول لي ونحن نتحدث عن المالكي اليوم: ألا تشعر بأننا نتحدث عن الماضي، وعن رجل لم يعد يحلم بالمستقبل بل يريد فقط رسم نهاية سياسية معقولة لتخبطاته؟
إننا ننظر في لوحة المستقبل فلا نجد له مكانا. هو أخرج نفسه عن خارطة المستقبل لأنه لم يفهمها، بل إن طاقم مستشاريه لم يتركوا له وقتا كافيا لفهمها. وهناك من يقول اليوم "حسنا فعلوا ، مستشارو المالكي يستحقون جائزة من خصومه".
إنه رجل لم يتعلم الصبر، والتسرع يمكن أن يأخذنا جميعا إلى الخسران لأنه لا يتيح لنا الإلمام بما يجري حولنا. إن تخلي المحمود عن الرياستين تحت ضغط برلماني دستوري هو رمز لكل عمليات "الكنس والمسح" التي ستجري في بيت هذا السلطان وكل سلطان قادم.
خاتمة المقال القديم تصلح خاتمة لمقال اليوم أيضا "هل غفل المالكي عن تفاصيل سهلت للعراقية والكردستاني وجزء من الأحزاب الشيعية داخل التحالف، أن يخرجوا الصيد الثمين من كيسه هذه المرة؟ لماذا لم ينجح بمقايضة شيء بشيء؟ أم أن أوراقه بدأت تنفد لأنه استعملها بإسراف كي يكسب كل الانتصارات السابقة؟".
لماذا يخسر المالـكـي "معركــة آل باتشينو"؟
[post-views]
نشر في: 12 فبراير, 2013: 08:00 م