تسنى للفنان التشكيلي(مطيع الجميلي/تولد1957)أن يمهد لملاك معرضه الشخصي الحادي عشر- وهو رقم ليس سهلا في بنية تنوع وثراء وديمومة في عموم تجربته منذ معرضه الأول عام/1977-رسوخ تنويعاته الأدائية متمثلة بضخ أنساق عوالم مرئية متزاحمة بتداخلات أزمنة ومتممات أ
تسنى للفنان التشكيلي(مطيع الجميلي/تولد1957)أن يمهد لملاك معرضه الشخصي الحادي عشر- وهو رقم ليس سهلا في بنية تنوع وثراء وديمومة في عموم تجربته منذ معرضه الأول عام/1977-رسوخ تنويعاته الأدائية متمثلة بضخ أنساق عوالم مرئية متزاحمة بتداخلات أزمنة ومتممات أمكنة وتخالط ذكريات ونوبات حنين طاغ لروح طفولية لم تزل تنام وتصحو لتستيقظ على ترتيل أحلامها الضائعة بصدى أيام غادرت صوب أمل مستحيل،سعى إلى إعادة تقليب جمراته- مجددا-(مطيع الجميلي) بموقد محتوى عنوان دال تعادلت فيه مناسيب البوح مع لوائح الكتمان على جدران زمن مضى-على غفلة منا-وراح يتراكض لاهثا،لم يشأ أن يترك لنا سوى شحوب خربشات وأنين شجن لبعض حروف وبقايا كلمات لا تحمل من نسق ذلك الماضي غير رجع الصدى بتضاعف موجات حنينه،مرتلا بهمس وخشوع ؛ ما الماضي ذلك السر الحزين؟!
(كتابات على جدران بغداد) عنوان ذلك المعرض الذي شهدته القاعة الرئيسية للفنون في مبنى وزارة الثقافة/نهاية كانون ثاني/2013،عبر أعمال بمختلف القياسات والحجوم تناسقت مع عدد من الصحون الفخارية التي تحولت هي الأخرى مساحات لبوح لوني وخطوط وإشارات ورموز وعلامات استجمع بها (مطيع) خلاصات وعي مثمر لموهبة لم تتمرد على نوازع نفسها ومركبات دوافعها إلا لتتمكن وتكمل مديات رؤيتها الصائبة صوب توابع ذلك الجهد ورصانة الانهماك في رصد وأرشفة تواريخ من حواضر ومواضي مدن تأريخية،كما فعل من قبل في متن معرض حمل عنوان (كتابات على جدران دمشق)أقامه على قاعة المركز الثقافي البلغاري في العاصمة السورية نهاية/2010 ،وآخر بعنوان مماثل هو( جدران تونس) قاعة صدر بعل للفنون في العاصمة تونس/2011،ولتشكل بنزوع تلك المعارض الثلاث مقتربات مسارات بحث وتعضيد منجزات بصرية،لم تعد تكتفي باللوحة مجردة هكذا،بل حاول الفنان تأكيد سمة الضمني وهواجس المعلن مابين ميل الفنون وفتنة مجساتها ومساعي نهجها وتوصيلاتها الحسية والمعرفية والتصدي لحالات من التواشج والانفتاح على عوالم قادرة على استدعاء مباهج الخط وتدفقات الحرف وذخائر الشعر في تثمين قصائد أو مجتزآت منها,سعيا ووصولا لتطويع كل ممكنات تعميد اللوحة- نهاية مطاف المسعى الإبداعي- بينابيع اللون وطراوة الخط ونباهة التصميم لصالح دهشة وفتنة الإخراج النهائي لعمل فني يتماهى فيه الشعر ملموسا ومحسوسا،على غير عادة استدعاء الجمال متجسدا بروح اللوحة التي جاء ينشدها(مطيع الجميلي)في ثوالث كتاباته بالرسم وممكنات لذاته وتحولاته الذهنية على جدران دمشق/تونس، وأخيرا بغداد،موضوع اتضاح تواصل تلك الرؤية تواثبات غدت بمثابة استرجاعات مقرونة بكل عناصر اللعب الحاذق والعفوي على مهابة السطح التصويري المتاح أمام خيارات متعددة لعمليات من الحذف والإضافة والتعرية والتراكم ومقاصد انزياحات قصدية توافقت من لوزام ومتواليات اللصق(الكولاج) والحز والحك وتطويع الإشارات واللقى الآثارية والتقابلات الوجدانية والتناغي الحي مع أملاءات وحدس اللحظة المدهشة التي يعتمدها (مطيع الجميلي) لك يحيي بها طراوة ونقاوة تلك اللحظات الحانية والحرجة لصالح غاية أسمى تساند العفوية في استحقاقات فهمها لمعنى الفعل الإنساني حين يكون متمرسا بهواجس إتقان أساليب وأساسيات تلك اللعبة وعموم مجريات ذلك اللعب التمثيلي ونزعاته السايكولوجي في محنة التخفيف عن آلام الناس وتجميل حياتهم بالممكن النفسي والجمالي،وما مسببات هذا العرض الباذخ من حيث تعدد الأساليب وسبل المعالجات ونتائج التقنيات مشفوعة بالخبرة والمراس والتواصل في تطور وسائل التعبير نحو قوانين واستمالات الحداثة ومتممات استحداث الرموز كونها مداليل وكوامن ثقافية تزيد من أواصر الإنسان تجاه إنسانيته الواعية والحقة لقيمة استخدام هذا الرمز أو ذاك في الوقت الذي يرغب ويشاء،أو في الحالة والظرف الذي يعيشه ويحياه تثمينا لنواحي كشف عمق تلك الثقافة وتوخي تنوع أساليبها الأدائية.
تستدعي مقومات ومهارات جرأة الفعل الذي أقدم عليه (مطيع الجميلي) في معرض(جدران بغداد)تحديداً كونه يختلف عن كتابات على جدران دمشق وتونس،التي كان لي شرف كتابة كلمة دليل المعرضين- حينها- كونها تعلقت باختيار قصائد عن تلك المدينتين التأريخيتين كتبها شعراء كبار من أمثال الجواهري /البياتي/ نزار قباني/مظفر النواب/محمود درويش/أبوالقاسم الشابي وغيرهم،فيما تمركز الجهد الكبير في استنارات الكتابة على جدران بغداد كشفا نفسيا وحسيا لمجموعة من علائق عاطفية وذكريات عميقة أزاح عنها من خلال الحرف والكلمات والأرقام تراكمات سنين وخواطر حنين لأرواح سكان وأناس عاشوا في حنايا وخبايا و زوايا تلك الأمكنة التي حاول (مطيع) أن يطاوع ملكاته وسيول ذكرياته طائعا لفكرة العودة إلى تخيل تلك الحقب وتوثيق بعض جوانبها الروحية والدلالية،وهذا ما ألزمه في الكثير من تنفيذ أعماله الاعتماد على التعتيق وفرض هيبة توافد وتراكم وطأة الزمن عبر تعليق الرمز وترسيم الإشارة وتذليل العلامة بمقدار نزفها وأهات توجعاتها وأثر تأثيرها على مدركات عقل وقلب الإنسان الغائب تماما عن جميع أعمال(مطيع) في نواحي الرسم ومقتربات الخزف وتطويع طاقة الحرف لصالح التمهيد بتويع تلك العلامات والتنويهات والموجزات الافتراضية لبقايا ما ترك الإنسان من أثر تلو آخر حتى تجرد أن يتجمع في وعاء لوحة مفكرة حانية،غنية،برسم صورة توضيحية لمعنى قسوة الغياب وعناد اكتمال الذكريات،وما من سبيل- بالتالي- غير الرسم بالشعر أو الخربشة الراهنة من فرط طيش اللحظة وشحوب جدوى كتابات لا مجدية على جدران وشاشات حياة غارقة بجنون توقها الدائم لحياة هي في مكان آخر كما كان ينشد ذلك مراراً شاعر فرنسا الأثير (رامبو) وفي وقت أعاد فيه الروائي التشيكي (ميلان مونديرا) نسج روايته الرائعة بنفس ذلك الاسم (الحياة... هي في مكان آخر)،وما أمكنة (مطيع الجميلي) وأزمنته في متون عزف عذابات انشغالات كتاباته على جدران بغداد،ماضيا سحيقا وماضيا قريبا إلا تمرير لنوازع ذكريات مرت من أمام وعينا- خلسة- ولم تترك لنا سوى همس صوت موجع وبعض صدى لأشهى نوبات الحنين،حين تتمالك روح الحرف بممكنات وجوده الموحي،وأن تنضوي تحت جنح دراما اللون وبهاء فعله من نوافذ لذائذ ونشوة الإحساس بالرسم مرهوناً بمراس وهوسه الدائم للجمال حتى ولو في أتون خرائب الذكريات.!