TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الرأس الخالد

الرأس الخالد

نشر في: 15 فبراير, 2013: 08:00 م

قبل 956 سنة مات رجل كان أكثر الناس شكا بالناس، وأشدهم حساسية تجاه كرامته، وأعظمهم زهدا. القدر حرمه نعمة البصر. وهو حرّم على نفسه الدنيا، فحبس نفسه في الدار، ومنع عنها المرأة، وكان أول نباتي في الاسلام. تجنب كل صراع، كل عمل، كل لذة، وبالتالي كل شر. ولم يبق له في هذه الحياة سوى "الجهاد الأعظم" بينه وبين نفسه، يفليها، يقلبها، يستقصيها، يعذبها، تعذبه. يكتب ويؤلف. كانت هذه هي محنته. وليس هناك معركة أشد هولا، ولا أعتى عصفا من مواجهة النفس:

مهجتي ضدٌ يحاربني     أنا مني، كيف أحترسُ؟

وقد لا يكون هناك في التاريخ القديم والوسيط رجل مثله دخل معركة ضارية وعميقة كهذه. فهذه المعركة من فئة فكرية وحسية أكثر انتسابا الى الأزمنة الحديثة. ولعل نيتشة كان بطلها وضحيتها الأكبر. ولذلك ربما جاز اعتبار صاحبنا، الذي مات قبل 956 سنة، رائد معارك "المواجهة مع النفس"، أو رائد "الوعي الذاتي"، أو "النقد الذاتي". وقد خصته هذه الريادة، كما يجب، بمكانة أخلاقية فريدة وسامية.

لكن عادة ما يكون الرضا عن النفس أبعد نتائج هذا النوع من المعرفة. فلا أحد يمكن أن يفهم نفسه ويرضى عنها. وانظروا ماذا يقول هذا الناجي الاستثنائي من نسيج الإنسان الفاسد عن نفسه:

ثوبي محتاجٌ الى غاسلٍ    وليت قلبي مثله في النقاء

وهكذا كان صاحبنا، كما يقول عنه طه حسين، "سيء الظن بنفسه، سيء الظن برأيه، وهذه آية التواضع ومعرفة الإنسان قدر نفسه". ويا لها من كلمات دقيقة، بعيدة الغور، من أعمق مفكر عربي حديث عن أعمق مفكر عربي قديم. من طه حسين عن أبي العلاء المعري.

إن معارك الوعي العميقة من طبيعة صادمة دائما، لأنها محكومة بالجرأة في تعرية الأوهام التي تحكم الناس. وهي أوهام لا تسلم منها حقبة، ولا يخلو منها عصر على ما رأى المعري بعمق وعبَّر ببساطة:

في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها

فهل تفرَّد يوما بالهدى جيلُ؟

ولكون مثل هذا الحفر في طبقات الوعي يتناقض عادة مع الأفكار والعقائد السائدة، ولكون الرجل شديد الحساسية تجاه كرامته، فقد كان يخشى كل الخشية من تعديات الجمهور المتوقعة في مثل هذه الأحوال، وقال، أو الأصح إنه تمنى هذه المكافأة المتواضعة:" ومَنْ لي بالوقفة بين المنزلتين: لا أكرم ولا أهان". أي يتركونه لحاله، بلا اكثراث، بلا جزاء ولا جحود. وكان محظوظا، فقد حمته الدنيا من الإهانة، ولم تقصِّر كل التقصير في تقديره.

لكن كان ذلك في عصره. أما اليوم، وبعد 956 عاما على رحيله، فلم يُترك لشأنه، ولم تشفع له هيبته العابرة للقرون، فلاحقه الجهل المقدس، وقطع رأس التمثال المقام له وسط معرة النعمان مسقط رأسه. الهمج بعد كل هذه القرون يطاردون تمثال معلم الرحمة الأول في الحضارة العربية الاسلامية:

"صاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عادِ؟ / خففِ الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد/ وقبيحٌ بنا، وإنْ قَدِم العهد، هوانُ الآباء والأجداد".

بكل تأكيد إنهم لن يستطيعوا قطع الرأس الخالد. لكن ما كان يخشاه المعري وقع. لقد أهين. وأهين أكثر منه بهذا الفعل البائس كل عربي وكل انسان على هذه المعمورة التي يريدونها مخروبة. نعم الإهانة شاملة لأن الهدف احدى عمائر الإبداع الانساني، والإهانة مخزية لعصرنا لأنه جعل مثل هذه القبائح ممكنة.

عذرا أبا العلاء. نحن في الهاوية. "تغيَّرتِ البلادُ ومن عليها/ فوجهُ الأرضِ مِسوَدٌ قبيحُ". وعزاؤنا إننا نراك كلما اتيحت لنا نظرة الى فوق:

وبعضُ الناس في الدنيا كطيرٍ

  أوانفُ أن تلائمها الوكورُ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كاطع جواد

    سحقا لعشاق الظلام بعملهم هذا فاي فكر هذا الذي يخشى من تمثال هو رمز لشخص ترك لنا كل ما هو جميل وفتح لنا أبواب المعرفة بعد إنحيازه للعقل على حساب الموروث من أفكار وأوهام اعتاد عليها الناس والتي تضع أغلالها ليس في ايدينا فقط بل حتى في أعناقنا ..قبل سنوات

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram