انه تجديد لإعلان طلاق بائن لا رجعة فيه بين الصدر والمالكي اثر هذا التصرف الشائن مع هيئة المساءلة والعدالة. وكيف يتصرف المالكي على هذا النحو في وقت يريد من باقي الشركاء حوارا لامتصاص الأزمات؟
حين يبدأ السياسي باللعب على المكشوف يصبح بمثابة مفلس بلا نكهة سياسة. ان السياسة هي تصميم اتفاقات وحلول وسطى واستخدام أوراق رابحة، والحرص على تفاهمات رفيعة تضمن الاستقرار. أما حين يكون القرار السياسي تعسفاً على طول الخط ولعبا سيئا على المكشوف فإنه يثير الاضطراب، ويبطل الحكمة، وحين يحل الاضطراب يعني ان السياسة انتهت، ودخلنا مرحلة عميقة من اللاسياسة واللامنطق والعناد الطفولي.
اما امين السلطان على امانة مجلس الوزراء فهو يشتهي ان يحل محل مدحت المحمود كما يبدو، فيأخذ في وثيقة نشرتها "المدى" بالتماس ثغرات قانونية شكلية للطعن بقرارات الأغلبية السياسية في البلاد الممثلة داخل هيئة المساءلة حين قررت خلع المحمود، وجاء السيد علي إسماعيل العلاق ليفصل على مقاسات السلطان تكييفا يضمن له ان يبقى الأمر الوحيد والناهي الفريد في بلاد ألف ليلة وليلة. وهل نسينا رسالة العلاق السابقة التي أرادت رفع الحصانة عن كل النواب؟ أننا شعب لن ننسى هذا اللون من خدمة السلاطين.
لكن هناك مجموعة رسائل مقصودة أو غير مقصودة بعثها المالكي إلى الجميع عبر تصرفه الشائن مع ملف المحمود وفلاح شنشل رئيس المساءلة.
اولى الرسائل هي إن المالكي يئس من السيد مقتدى الصدر، فرغم كل الضغوط التي مورست على التيار، داخلا وخارجا، بقي الصدريون منذ أزمة سحب الثقة واضحين وبلغاء وغامروا بمستقبلهم الأمني والسياسي، من اجل إرساء ضمانات تحمي التعدد السياسي. وبفضل تنسيق عال مع باقي الكتل عجز المالكي أن يحاصرهم او يضعف موقفهم، وبدل ان يحاورهم بشكل معقول راح يتحداهم ولا يحسن قياس حجم خصومه بل يستخف بهم. مع اصدار الاغلبية السياسية قانون تحديد الولايات وحرمان كل مالكي من ولاية ثالثة، شعر السلطان بأنه لم يعد مهاب الجانب يخيف خصومه. وهل كان يوما مهابا إلا بدعم وثقة شركائه في ائتلاف السلطة؟
وعدا يأس المالكي من الصدر فإن ملف المحمود بعث برسالة أخرى مفادها ان السلطان وفريق مستشاريه المتشنج، لا يبدو مستعدا لاي مراجعة لسياساته. فهو متمسك بنهجه الخاطئ غير مقدر لخصومه وجمهورهم، ولا لجمهور المحتجين على سياساته ولا للنخبة التي تعترض عليه بجرأة جعلته يشعر بعزلة شديدة لاول مرة في تاريخه السياسي.
ان خطوات المالكي في اليومين الاخيرين اثبتت لكل الاطراف ان اصلاح حاله واعادة التوازن اليه امر مستصعب. ولا ادري هل قصد المالكي هذه الرسالة ام لا؟ هل اراد ان يقول بعناد طفولي ان قياده لن يكون سهلا؟ مشكلته الاساسية انه متسرع ولا يعترف بقواعد اللعبة، وبدل ان يبدد هذا الانطباع فانه يكرسه ويثبت للجميع انه لم يكن ولم يعد، يعرف بناء تفاهم معقول مع طرف. كأنه يقول لهم: نعم لا علاج سوى ان تخلعوني لو استطعتم اقناع واشنطن وطهران. ألم تقنعا بعد بأنه فشل ودخل مرحلة اللاسياسة في بلد معقد مثل العراق وشرق اوسط ملتهب يتطلب سياسة عقلانية توقف لهيب الموت؟
ان رسائل المالكي كانت جوابية لاكثر الرسائل التي وصلته رعبا من خصومه. كان يشعر انهم مفككون وضعاف، فنجحوا في تنسيق صفوفهم وبدأوا يعملون بهدوء لنسج ضمانات قانونية تمنع ظهور الاستبداد وتكبح جماجه. رسالة تحالف ١٩ ايار الذي انبثق في لقاءات اربيل والنجف صيف العام الماضي، مفادها: ان اجتثاث المحمود سيكون مثالا لمعاقبة كل مسؤول يمنح ولاءه للسلطان دون الدولة، وان الفريق السياسي والعسكري للمالكي مشمول بالاجتثاث في الغالب، وفي وسع معارضيه وهم اغلبية برلمانية واغلبية داخل هيئة المساءلة، ان يطبقوا القانون المثير للجدل لقص اجنحته، بخلع عشرات من اعوانه. ادرك المالكي ان اجتثاث المحمود ليس سوى بداية سقوط سلطة الوهم التي اسسها بثمن تفكيك العرى الوطنية، واستعداء الجميع، والتعامل بلا لياقة مع اكثر الاطراف حكمة وتوازنا. ادرك انه بدأ يخسر المعركة بتسارع فتجرأ على الخروج الى مرحلة اللعب المكشوف واللجوء الى اللاسياسة. وهذا رهان خاسر بكل المقاييس سيشجعه على ارتكاب حماقات عظمى. وكلما ارتكب واحدة اخرى ازداد الداخل والخارج قناعة بأن الرجل فاقد لشرعية البقاء.
انه يكتب واحدة من اسوأ قصائده. خسارته تؤلمنا لانه يمثل حزبا عريقا. لكن عوض ذلك ربحنا شبابا اذكياء في كل الكتل تدربوا (براس المالكي) على درس "تجنب الحماقة ونتائجها". وفهموا مساوئ تهديد التعددية، واساليب ظهور شهوة الاستبداد في بلاد دفعت بالدم الغزير ثمن حماقات المستبدين. اننا نتابع درس "تجنب الحماقة ونتائجها" باستمتاع واهتمام، وكل تضحية على هذا الطريق ستكون رسوم دخول الدرس العميق الذي علينا اجتيازه، كي لا نعود الى قبر الدكتاتورية، ولنواصل بحثنا عن شمس الانفتاح الساطعة على كل الأمم الحية.
يؤسفنا ان يرسب السلطان في هذه الحصة، ويسعدنا أن نرى نواة لنجاح سياسي يديره تحالف ١٩ ايار ويثيرون بذلك إعجابا بسعة الحيلة وبجرأة أن لا نستسلم لشهوة رجل. إن نسختنا من التعددية تتطور وتتعلم كيف تحمي نفسها. وهذه عملية لن تتوقف.